أشباه نظريات

نشر في 22-09-2018
آخر تحديث 22-09-2018 | 00:07
 د. محمد بن عصّام السبيعي يزخر تاريخ المجتمعات بتجارب غزيرة. ويمثل الموروث الثقافي لمجتمع ما خلاصة تلك التجارب. وقد سرى الحال أن يلقى المجتمع الكثير من موروثه عن غير ما قصد، أو لربما عن تجريب غير مضبوط، أو لعله عن طريق المصادفة أو الاتصال العفوي، إلا أن المزاولة والتكرار يعملان حتما على إنضاج ذخيرة التراث تلك، وذلك حتى تغدو من الرسوخ والفاعلية ما يسترشد به على مر الحقب.

وموروث مجتمع ما يكشف عن نفسه على أنحاء شتى، إما في طرائق سلوك وألوان مظهر خارجي، وكذلك في فنون وأساليب إنتاج وغيرها. بل إنه طالما كان سجية للعقل الجمعي في أنه ينحو نحو اختزال تلك التجارب في كلمات قليلة فتذهب هذه مثلاً أو حكمة تدور على الألسن، جيلاً بعد جيل، وذلك إلى أن ترتقي إلى مستوى النظريات العلمية المفسرة لعلة ما أو الدالة على عرض ما. فهي بحسب تعريفنا أشباه نظريات. ونعتها بأشباه النظريات هنا لا يقلل من قيمتها العلمية أو فعاليتها، بل إن تداولها على مر الزمن ليمنحها مصداقية تفوق نظريات لم تختبرها التجارب والظروف بما يكفي. كلا. فما يدعنا ننعتها بشبه نظريات هو أنها لم تأت ثمرة جهد مقصود وموجه كما يفعل عالم في معمله، بل مصادفة في مسيرة بناء الثقافة، هذا كل ما في الأمر. ومع ذلك، فلعل جانب القصد لا يخفى هنا أيضا، أي إذاجاء ذلك نتيجة تجريب عفوي فتشت من خلاله الشعوب عما يذلل ما يواجهها من معضلات.

من ذلك قول التراث ما معناه «إن لم يصب سنان الرمح فلا يصيب كعبه»، فمثل هذا القول صحيح رغم عدم اطلاع قائله على هندسة إقليدس، فالرمح يذهب كالشعاع، وإن لم يرتطم رأسه بجسم أو هدف فمحال أن يرتطم عقبه، هذا في ظل بقاء الظروف كما هي، أي كما ظروف معملية. ومن ذلك أيضا وبما يسمح به المقام هنا ببعض التفصيل مقولة «وداوها بالتي كانت هي الداء». فهذا المثل يحمل في جنباته تضاربا جليا، إذ كيف يكون أمر ما، داء ودواء معا؟ رغم ذلك فقد برهن هذا القول الذي جاء خلاصة لبعض تجارب عفوية وذهب مثلاً، عن قدرة عجيبة في التفسير وحل كثير من المعضلات من مواقف وميادين شتى، وذلك بحسب أمثلة منتقاة من حقول علمية متباينة.

ففي علم السياسة تمثل دراسة القوة ونزعات الهيمنة الحجر الأساس، ولا ريب أنه طالما كان التوظيف غير المعقول للقوة داء ومبعث توتر، سواء بين وحدات الدولية، أو حتى بين الأفراد أي على المستوى الجزئي من العلم. ومن يتأمل أطروحة الردع كما تعبر عنه المدرسة الواقعية في علم السياسة لا يجدها إلا توظيفا للقوة أو التهديد باستخدامها، أي للداء ذاته، ووصف ذلك بالعلاج الناجع للحد من قوة أو هيمنة الطرف الآخر، والقضاء بالتالي على مصدر التوتر فيما يعرف في أدبيات العلم بتوازن الردع.

ومن مجال الطب وباثولوجيا الأمراض يمكننا أيضا أن نذكر المثال الشهير لاستخدام ذات الجراثيم المسببة للمرض في سبيل تقوية مناعة الجسم لمواجهة الداء ذاته. والأمر ذاته في علم النفس، حيث يستخدم المثير المسبب لاضطرابات لدى بعض الأفراد كعلاج في السيطرة على تلك الاضطرابات وإطفائها. فهنا يصار إلى إعادة تعريف علاقة فهم إيجابية بين المريض والمثير بحيث لا يعود هذا الأخير إلى ايقاد أية اضطرابات لدى الأول. ومن ذلك علاج كثير من حالات الخوف أو الرهاب من الحيوانات أو من ثمة أوضاع أو مسالك.

على أن المثال الأكثر طرافة هو ما تقدمه علوم الحرائق وأساليب السيطرة عليها. قد يبدو للوهلة الأولى أن ذلك مما يتجاوز المعقول. فهل يكون سبيل إطفاء النيران بإضرام المزيد منها؟ أجل، هذا هو في الحقيقة عين ما يحدث، فعند خروج النيران عن السيطرة كما يحدث في حرائق الغابات، تعمد فرق الإطفاء في ظروف تحت السيطرة، إلى إشعال نيران في طوق حول محيط الحريق المراد إطفاؤه، وذلك حتى تأتي هذه النيران المصطنعة على كل ما تحتها من حشائش أو أشجار وتخمد بذاتها، وعندما تبلغ النيران المستهدفة ذلك الطوق ذا القاع الصفصف لا تجد ما تغتذي عليه أو تجعل منه وقودا لمزيد من الانتشار، عندها تنطفئ النيران بذاتها ودون أي مزيد من عناء.

back to top