ما قــل ودل: لم تكن... ولم تكن... ولم تكن... ولكنها كانت كل هؤلاء

نشر في 16-09-2018
آخر تحديث 16-09-2018 | 00:10
 المستشار شفيق إمام لم تكن زوجة ولم تكن أختاً ولم تكن أما فقط، بل كانت كل ما في هذه المسميات من صفات وخصال طيبة تتحلى بها الزوجة والأخت والأم، كانت كل ما في هذا الكون من حب وصفاء وطيبة ونقاء وإخلاص ووفاء، من حنان ورقة، ومن صدق وأمانة، ومن تسامح وتواضع، لا تضمر لأحد شراً أو حقداً أو حسداً، ملكت قلوب الجميع بمكارم أخلاقها ومآثر أعمالها.

كانت الحب والحنان كله في أسمى معانيهما وأبدع صورهما، شلال منهما، يتدفق من ينابيع لا يقوى البصر على حصرها، ومن أين جاءت مياه هذا الشلال تهدر بغير صوت كأنها لوحة فنان أبدع في رسمها وفي مزج ألوانها بمهارة وحذق يحسده عليهما كل فناني الكون من أقدم الزمان، لأنها لوحة من خلق الله عز وجل خصها الله بكل هذا الحب والحنان لكل من رأته أو التقت به وأحست به حاجة، فقد كانت كثيرة العطاء.

نموذج فريد عن كل البشر

خُلِقت من طين كسائر البشر، من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة مُخلَّقة وغير مخلقة، ولكنها تتميز عن سائر البشر بأنه لم يكن يبهرها طول السهر إلا على راحة ورعاية زوجها وأولادها وأحفادها، ولم يكن يبهجها اللهو والترفيه والسمر إلا بصحبتهم، فلم تخرج قط مع زميلات في العمل أو صديقات للتسامر أو التبضع في الأسواق أو إطالة النظر، منذ كانت في ريعان الشباب والصبا، فقد وهبت حياتها لزوجها ثم لأولادها ولأحفادها، تركت عملها في مصر، وقد كان يمكنها أن تصل إلى المناصب العليا فيه، لأنها أرادت أن تبقى مع زوجها في مشواره الطويل في العمل بين الأوراق والقلم تراقبه عن بعد في البيت وهو غارق فيها، حتى لا ينشغل بها عنها، وتسهر الليالي الطويلة لتبقى إلى جانبه إذا احتاج شيئاً أو أعياه التعب لتشد من أزره وتدعوه إلى الاستمرار حتى ينهي ما بدأه، قائلة له في استحياء وخفَر: ما عهدت فيك قصوراً في أداء واجب منذ الصغر، وما أظنك تفعل ذلك في الكبر، فقد كانت رسالته هي الذود عن الحق في حياته القضائية التي بدأ بها، وفي حياته المهنية والصحافية بعد ذلك، هي رسالتها، كأنهما مخلوقان لها، وليس مخلوقين لكل متع الحياة ومباهجها.

محبة للحياة والأسفار

ولكنها في كل عام كانت تحرص وبإصرار على السفر والتجوال تعوض بهما بعض العناء ولتلتقي بأولادها وأحفادها في إجازة نصف السنة التي كنا نقضيها معهم، سواء في شرم الشيخ أو الغردقة، أو على ظهر باخرة تجوب النيل بين مدينة الأقصر وأسوان، وفي الإجازة الصيفية لتنعم بصحبة الأولاد والأحفاد في أي بلاد يريدون، غير عابئة بمشقة السفر والترحال والتجوال التي لا نقوى في هذا العمر على تحملها، فقد كانت سعادتها ما تراه في عيون أولادها وأحفادها من سعادة في هذه الأسفار، نشاركهم في صعود الجبال، وفي مشاهدة معالم المدن ومباهج الجزر وجمال الطبيعة والبحر ومياهه الزرقاء.

وكنت أختلف معها بعد رحلة الخارج الشاقة في كل عام وأطالبها بأن تختار من الرحلات ما يناسب العمر الذي طال، والقلب الذي أنهكه الترحال والتجوال، وأنه يكفينا أن نجلس على شاطئ النيل الرحيم في مقصورة تجوب هذا النيل، ساحر الغيوب وواهب الخلد للزمان، وساقي الحب والأغاني، أو نجلس في بيت بنيناه على شاطئ الإسكندرية، عروس البحر المتوسط، نمعن النظر في مياهه الزرقاء، ونستنشق اليود الجميل من هوائه العليل. وتعود الكَرّة في العام التالي لنعيد ذات الموال، فقد كنت أذعن دائماً لإصرارها على السفر مع الأولاد والأحفاد، فهو اللقاء الوحيد بهم، فهم لا يجتمعون معاً إلا في هذه الأسفار، فإجازات الأولاد والأحفاد تختلف في بدايتها أو نهايتها.

راهبة في محراب العطاء

كانت راهبة في محراب العطاء، لكل من تراه في حاجة من الأقارب والأصهار، بل والأغيار، تحثني على ذلك وتدعوني إلى المزيد من العطاء والإحسان. ولكن عطاءها لم يكن يقف عند الأموال التي تنفقها، والرواتب التي قررتها لبعض المحتاجين، بل كان أكثر من ذلك بكثير، كانت تكرس كل ما لديها من وقت للسؤال عن الجميع، فقد كانت تتمسك بالحياة وتحبها، لأن لها دوراً في العطاء في هذا الوجود، فهي ترفض حياة السكون والهدوء والتمتع بنعم الحياة في آخر العمر، لأنها ترفض أن تكون على هامش الحياة، غير عابئة بأن زوجها وأولادها قد بلغوا سن الرشاد وأنهم قادرون على حل مشاكلهم وتجاوز ما يواجههم من عقبات، وأن أحفادها من هذا الجيل الذي نشأ وتربى وترعرع في كنف عصر المعلومات الذي يزخر بكل أدوات المعرفة وأساليب البحث عنها بأصابعهم الضعيفة وأناملهم الرقيقة التي تعبث بأزرار صغيرة في أجهزة خفيفة الحمل في الترحال والتجوال، تحمل لهم كل ما في الدنيا من حقائق ومعلومات، وقد أصبح العالم قرية صغيرة، لا تضيق بسكانها من هذا الكون الكبير.

رمانة الميزان

وعندما توهمت أن الكل لم يعد في حاجة إليها من زوج وأولاد وأحفاد، بالرغم من كل ما وفرناه لها من أسباب السعادة والهناء، لاسيما أنني كنت أقول لها دائما لقد أديتِ رسالتك كاملة، فدعيهم يكملوا وحدهم المشوار، وأن مكارم أخلاقك التي غرستيها فيهم وحب البذل والعطاء هي الضمان الجوهري في حياتهم فلا تقلقي عليهم، ودعيهم يشقوا حياتهم ويحلوا مشاكلهم بطريقتهم، فقد كنت أنأى بنفسي عن التدخل في شؤونهم، إلا إذا طلبوا ذلك، وكنت أريدها أن تفعل مثلي حتى لا يجرح أحد شعورها... يبدو أن ما كنت أدعوها إليه قد توهمته إقصاء لها من أي دور في حياتنا، رغم حرصي على أن أكرر لها كل يوم أنها النعمة التي أنعم الله بها علي وعلى أولادي، وستظل كذلك، وأنها البركة التي حلت بنا في كل ما حققناه من نجاح أنا وأولادي في أعمالنا وفي أرزاقنا، وما حققه أحفادها من نجاح في جامعاتهم ومدارسهم، وأنها ستظل كما كانت "رمانة الميزان" في حياة العائلة عندما يتطلب الأمر رأيها ومشورتها، فما كان قصدي إقصاء لها، بل كان قصدي أن أبعدها عن مسببات القلق لتنعم بحياتها في نهاية العمر.

لكنها آثرت الصمت عن الكلام، لترقد في سلام بمستشفى اختاره لها القدر على أحد أسرَّته، لتقضي فيه بقية عمرها، طال أو قصر، لا يربطها بالحياة إلا أسلاك وأجهزة.

اللهم اجعل الحياة لها زيادة في كل خير، واجعل الموت لها راحة من كل شر، اللهم ارحمها بالقرآن الذي كانت تختمه في كل شهر، واجعله نوراً وهدى ورحمة لها حين تلقاك يارب العالمين.

اللهم إني اسألك موجبات رحمتك بها، وعزائم مغفرتك لها، اللهم اجعل خير عمرها آخره، وخير عملها خواتمه، وخير أيامها يوم تلقاك يا رب العالمين.

back to top