مغامرة بوتين التالية على المسرح العالمي

نشر في 15-09-2018
آخر تحديث 15-09-2018 | 00:00
فلاديمير بوتين - باراك أوباما - جون كيندي - رجب طيب إردوغان
فلاديمير بوتين - باراك أوباما - جون كيندي - رجب طيب إردوغان
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقامر معروف، وهو يحكم دولة ذات إمكانيات اقتصادية أقل من الولايات المتحدة، وقدرات عسكرية متراجعة، وعلى الرغم من ذلك فقد دفع العالم بطريقة ما إلى الظن بأنه قائد قوي. وما يتعين الاعتراف به بعد اجتماعه مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في هلسنكي – ومع كل التعليقات السلبية التي أعقبت تلك القمة – هو أن هذا الكولونيل السابق في جهاز الاستخبارات الروسية (كي جي بي)، يتخذ أسلوباً واقعياً واضحاً ازاء العالم ويمضي لتحقيق أهدافه بصورة جلية.

والرئيس بوتين، الذي استاء من ضعف موقف بلاده في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، يسعى الى اعادة تأسيس روسيا على شكل دولة اقليمية قوية في أوروبا، ومن أجل تحقيق ذلك فهو ليس محتاجا إلى رفع مركز بلاده وخفض مستوى دول أوروبا وتدمير كل روابطها مع الولايات المتحدة بأي ثمن. وخلال هذه المسيرة يسعى بوتين أيضاً الى ازالة الجوانب الصغيرة مثل الأفكار المتعلقة بالحرية والديمقراطية التي تبدو أنها تبرز شعوراً حول تفكيره الاستبدادي القيصري.

ويهدف بوتين الى تحقيق ضعف يستطيع الاستفادة منه، ولا يعني ذلك ضعفاً بالضرورة، بل مجرد ادراك تلك الصورة. وعلى صعيد تاريخي، كانت أي فجوة في درع الخصوم أو أي «اشارة» حول أوراق اللعب على الطاولة تثير اختباراً مستقبلياً بالنسبة الى بوتين أو الروس بصورة عامة. وقد تصور ستالين أن الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت يتسم بضعف عقلي ومادي في مؤتمر يالطا، وانطلق لوضع أوروبا الشرقية خلف ستار حديدي، وتصور خروتشوف أن جون كيندي شخص لا يحل، وأنه رئيس يفتقر الى الخبرة في اجتماع فيينا في سنة 1961، وكانت نتيجة ذلك أزمة الصواريخ الكوبية.

من جهة اخرى، أفضت عملية الالهاء التي قادها جورج بوش في العراق الى دخول روسيا الى جورجيا، كما أن ملاحظة باراك اوباما الى ميدفيديف التي قال فيها بعد اعادة انتخابه في سنة 2012 «سوف أكون أكثر مرونة» قد دعت بوتين الى احتلال غير مشروع لشبه جزيرة القرم وأجزاء من أوكرانيا عام 2014. وهذه طريقة روسية في اختبار العدو: عندما تواجه طبقة رخوة من الثلج اضغط بقوة، وعندما تواجه طبقة فولاذية عليك أن تتوقف... والسؤال الآن وبعد قمة هلسنكي هو: أين سوف يختبر بوتين الولايات المتحدة والحلفاء في المرة التالية؟

مبادئ اتخاذ القرار

وسوف يسترشد بوتين بثلاثة مبادئ في اتخاذ قراره، ويتمثل المبدأ الأول في أن كل خطوة يقوم بها يجب أن تقوي المصالح الروسية، والأعمال الزائدة أو غير الضرورية لا تستحق المجازفة بالنسبة اليه، ويتمثل المبدأ الثاني في ضرورة أن يفضي أي عمل الى تقويض مصلحة أوروبية مهمة ويضعف بالتالي الوحدة الأوروبية، أما المبدأ الثالث فيتمحور حول احداث أي عمل لتأثيرات غامضة بما فيه الكفاية بالنسبة الى المصالح الأميركية وإبقاء الولايات المتحدة بعيداً عن طاولة اللعب، لأن بوتين يعلم عجزه عن مجاراة الولايات المتحدة. وتوجد طائفة من السيناريوهات التي تلبي هذه المطالب.

1- في وسع بوتين مضاعفة عملياته الحربية في أوكرانيا، وربما يعمد الى اطلاق عمليات عسكرية مكشوفة تقوم على وجود أقلية عرقية روسية في ذلك البلد، ثم توسيع سيطرته الجغرافية الى ما وراء اقليم دونباس. وقد تم الى حد كبير اسكات ردود الفعل الغربية على غزو سنة 2014 حتى بعد اسقاط روسيا لطائرة ركاب في المجال الجوي الأوكراني.

وتظل أوكرانيا خارج حلف شمال الأطلسي، وهي لا تعتبر بصورة عامة ضمن الدول الغربية، والحلف لا ينوي التوسع وقبول عضوية دول جديدة، ولذلك فإن نافذة الفرصة قد أغلقت في وجه أوكرانيا. ثم إن توسع الأنشطة الروسية في المنطقة يمكن أن يقوي مركز بوتين السياسي في الداخل – مادام استمر في حجب وإخفاء عدد القتلى من الجنود الروس، كما يشجع على مزيد من الدعوات الى اعادة فرض «النظام الطبيعي» الحتمي في شرق أوروبا.

2- يستطيع الرئيس بوتين العمل على تنفيذ عملية مشتركة وذلك من خلال الاستيلاء على منطقة في بحر البلطيق. وتوجد عدة جزر هناك موضع خلاف تاريخي بما في ذلك روسيا والسويد، كما أن غوتلاند، على سبيل المثال، تخضع في الوقت الراهن لسيطرة السويد التي ليست عضواً في حلف شمال الأطلسي ولكنها عضو في الاتحاد الأوروبي. وهكذا فإن استيلاء روسيا على هذه الجزيرة سوف يشكل تحدياً بالنسبة الى الاتحاد الأوروبي ولكنه لن يدفع بالضرورة الى ردة فعل من جانب الولايات المتحدة. وفي ظل هذه الظروف سوف تتفوق روسيا من وجهة نظر عسكرية بشكل شبه مؤكد. وإقامة مواقع لأسلحة متقدمة مثل تلك التي تم نصبها في كاليننغراد سوف توفر لروسيا هيمنة جوية وبحرية على بحر البلطيق كله، اضافة الى الممرات البحرية الى بولندا ودول البلطيق الثلاث.

وفي ظل مثل هذه الظروف ليس من الصعب تخيل سعي هذه الدول الى التوصل الى اتفاق مع روسيا من أجل ضمان مستقبلها السياسي.

3 – في وسع الرئيس الروسي أيضاً اغراء دولة عضو في حلف شمال الأطلسي للابتعاد عنه، والتوترات الحالية بين تركيا والولايات المتحدة وكل دول حلف شمال الأطلسي، اضافة الى أن فتح تركيا لحوار مع روسيا وإيران حول الوضع الأمني في سورية قد فتح نافذة أمام خروج تركيا من حلف شمال الأطلسي.

وفي غضون ذلك فإن رئاسة رجب طيب إردوغان القوية في تركيا واتفاقه مع موسكو على شراء منظومة صواريخ اس – 400 المضادة للطائرات وقراره باعتقال قس أميركي والاحتفاظ به على شكل رهينة قد أوصلت علاقات أنقرة مع الولايات المتحدة الى نقطة الانهيار. وليس من الصعب تخيل حصيلة تتمثل، إما في انهيار الحكومة الحالية أو ميلها نحو موسكو في جهد من جانب الرئيس التركي يهدف الى الحفاظ على سيطرته على الحكم، وسواء بشكل طوعي أو بالقوة فإن خروج دولة عضو من حلف شمال الأطلسي سوف يفتح الباب أمام دول اخرى لتحذو حذوها.

ومن الممكن طرح سيناريوهات اخرى مثل «الاستيلاء على أرض» في المنطقة القطبية، وهو عمل يهدف الى تضليل عمليات رصد الأقمار الاصطناعية في الفضاء والهجمات السبرانية والضغط الروسي الاقتصادي عبر امدادات الطاقة، وهي كلها خطوات تشكل تحدياً بالنسبة الى أوروبا وتفاقم التوتر ضمن حلف شمال الأطلسي، وخاصة إذا استمر هذا التحالف في عدم تحقيق الالتزام القاضي بتخصيص نسبة 2 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي الذي تمت مناقشته أولاً من قبل الدول الأعضاء في الحلف خلال قمة براغ في سنة 2002، ولكن مهما حدث فإن الحصيلة سوف تكون في وقت قريب، وربما خلال الأشهر الـستة أو الـ 18 المقبلة.

ويمكن القول على أي حال إن ثمة وسيلة لتفادي هذا المسار الذي يبدو محتماً، وإذا استمرت الولايات المتحدة في تحقيق استثمارات ضخمة في قواتها العسكرية – والانتقال من انفاق 3.4 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي ( 700 مليار دولار ) الى 4 في المئة ( 760 مليار دولار ) في ميزانيتها الأساسية، مع تصرف حلف شمال الأطلسي وفقاً لدعوة ترامب الى انفاق أكثر من 2 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي على الدفاع فإن ذلك سوف يرفع نسبة الحذر على طاولة الرهان بصورة كبيرة. كما أن استخدام تلك الأموال الاضافية من أجل شراء صواريخ متقدمة وطائرات من الجيل الخامس سوف يساعد أيضاً.

الطريقة الأفضل

ولكن الطريقة الأفضل لمواجهة خطوة الرئيس بوتين التالية تكمن في توقع قيامه بها. ومن خلال المناورات المكثفة في البلطيق وبحار الشرق الأوسط تستطيع الولايات المتحدة والدول الحليفة في حلف شمال الأطلسي اظهار العزم والقرار مع حرمان سيد الكرملين من القيام بمبادرة تهدف الى عمل عدواني. وفي ضوء اتساع مساحة روسيا تستطيع الولايات المتحدة والدول الحليفة اجراء مناورات في أماكن اخرى في أوراسيا الوسطى أو على طول ساحل المحيط الهادئ لروسيا من أجل تذكير بوتين بحجم المناطق التي يتعين عليه الدفاع عنها.

من جهة اخرى، يعتقد بوتين أنه يعمل على استعادة أمجاد روسيا السوفياتية والقيصرية واعطاء الشعب شعوراً بعظمة بلاده، ولكن كما يعلم طلاب الخبير الاستراتيجي الكبير جورج كينان فإن ثقافة روسيا الاستراتيجية الحقيقية لم تكن قط نابعة من الشعور بالعظمة بل بالخوف، ثم إن التحالف بين الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي يمثل ورقة رابحة على طاولة العمل الجيواستراتيجي، شريطة أن يتم ذلك بصورة مشتركة مع الاستعداد لمواجهة الخصم.

back to top