حبر و ورق

نشر في 15-09-2018
آخر تحديث 15-09-2018 | 00:02
No Image Caption
فجر عربي

قبل بزوغ فجر الإسلام بأعوام، كانت مدينة الحيرة جنوبيّ العراق زاخرة زاهرة بحكم النُعمان بن المنذر، وكان آمناً راخياً بالخيرات بين يديه حاكماً للعرب تحت إمرة أبرويز كسرى ملك الفرس، عاملاً له على من تحته من العرب. تسلم مقاليد الحكم بعد وفاة أبيه المنذر، يُقال إنه يعتنق المسيحية ومن أشهر ملوك مملكة المناذرة قبل الإسلام، داهية مِقدام لكن دهاءه لم يُنقذه من هجاء الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد الذي أستجرأ وأغار على إبله وأرسلها هبة لعبلة.

ومن غرائب النعمان التي ذاع صيتها أنه كان له يومان من كل سنة، يوم سَعْد يبتهج فيه ويرتدي أزهى الثياب ويتجمل ويتطيب ويبالغ في إكرام أول من يفد عليه في ذلك اليوم، ويوم تَعس يتجهم فيه ويغلظ بالقول ويرتدي خرقاً سوداء وعمائم قاتمة ويقتل أول من يأتيه طالباً حاجة.

وقيل إنه تجنب ذلك في آخر سني حياته.

ومع انصياعه لكسرى وانقياده له إلا أنه كغيره من العرب جُبل على العزة والكرامة وكراهية الذل والانصياع. يُقال إنه في إحدى رحلاته لكسرى خرج من الحيرة قاصداً المدائن حاملاً خراج ما تحته من الأقطار ليسلمه إلى كسرى، فلمّا دخل عليه وجد بين يديه وفوداً من الروم والهند والصين، وكل وفد من هؤلاء يذكر له مفاخر قومه وسلطان مَلكهم وخيرات أرضهم، فالتفت كسرى إلى النعمان وقد أخذته عزة الملك وكان لا يرى للعرب قيمة تذكر، فقال برفعة وهو يرمق النعمان من علو: يا نعمان لقد تفكرتُ في أمر العرب ونظرتُ في حال من يَقدم علي من الأمم فوجدت للروم حظّاً في اجتماع كلمتها وعظيم سلطانها وكثرة مدائنها وأن لها ديناً يبين حلالها وحرامها ويرد سفيهها ويقيم جاهلها، ورأيتُ الهند قريباً من ذلك في حكمتها وكثرة أنهار بلادها وعجيب حِرفها، وكذلك الصين في اجتماعها وهمتها في آلة الحرب وثني الحديد وإن لها مَلِكاً يجمعها، والترك والخزر على ما بهم من سوء الحال وقلة الريف والثمار وما هو رأس عمارة الدنيا من المساكن والثياب إلا أن لهم ملوكا تضم قواصيهم وتدبر أمورهم، ولم أرَ للعرب شيئاً من خصال الخير من أمر دين ولا دنيا ولا حزم ولا قوة! ومع ما يدل على مهانتها وذلها وصغر همتها ما زالوا يتقلبون في باديتهم التي تنبض بالوحوش النافرة والطيور الجائرة، يقتلون أبناءهم من الفاقة ويأكل بعضهم بعضاً من الحاجة، ليس لهم حظ من مطاعم الدنيا ولهوها ولذتها فخير ما يظفرون به لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع، وإن وفد عليهم عابر سبيل طرحوا تلك الإبل بين يديه وعدوها مكرمة! وفوق ذلك كله تنطق أشعاركم بما يرفع رجالكم ويعليهم.. وهذه المدائن التي ترتعون تحت ظلها أسس جدي الأكبر اجتماعها وشد مِلكتَها ومنّعها من عدوها، ثم أراكم لا تستكينون على ما بكم من الفاقة والبؤس حتى تتفاخروا وتعتلوا فوق مراتب الخليقة.

أنهى كسرى حديثه والنعمان أمامه ثابت متجلد بحلم جَلّد.

قبض كفه حتى أحس بانحشار مقدمة أظفاره بباطنها، ابتلع سيل الشتائم التي تقاذفت عليه وعلى قومه ثم رفع رأسه بعزة ينظر إلى كسرى فوجده ينتظر منه جواباً، فقال بهيبة ملك راصن عزم أن يثبت لكسرى نقيض ما تفوه به.

-إن لديّ جوابا لكل ما أورده الملك فإن أمّنني من غضبه نطقت به:

-لك الأمان على ذلك.

ملأ النعمان صدره بشهيق عميق تأهُباً لسرد ما في جعبته، فالعرب أجمع سُحقت عزتهم واهينت كرامتهم أمام هذه الوفود وعلى عاتقه الرد عن عرضهم والذود عنهم وإحقاق الحق، فهذا الفارسي تجذر به بغض العرب حتى أعماه عن كل فضائلهم.

-أيها الملك، إن الأمم التي ذكرت، قرنتَها بالعرب وفضلتَها بالعزة والمنعة والبأس والسخاء وحكمة الألسن وأنفةِ النفوس، وإن العرب جاوزت تلك الأمم ولها السواد الأعظم من كل ما ذكرت، فأما عزة العرب ومنعتِهم فهم من جاوروا آباءك الذين دخلوا البلاد ووطدوا الملك وقادوا الجند، وليس لتلكم الفرسان حِصن إلا ظهور خيولهم، مهادهم الأرض وسقوفهم السماء وجنتهم السيوف وعدتهم الصبر، أما غيرهم من الأمم فعزهم بالحجارة والطين وجزائر البحور.. أما أنسابها وأحسابها فلن تجد أمة من الأمم إلاّ وقد جهلت كثيراً من آبائها وأسلافها حتى إن الرجل منهم ليُسأل عمن وراء أبيه دَنِياً فلا يصيبه ولا يعرفه! والعرب لا ينشأ الفتى منهم ويشب إلا ويسمي لك نسبه إلى أقصاه، يحيط بذلك أحسابه ويحفظ أنسابه، فلا يدخل رجل في غير قومه ولا ينتسب إلى غير نسبه ولا يُدعى لغير أبيه.. أما جودهم وحسن إفادتهم لمن يفد عليهم فان أدناهم رجلاً تكون لديه البِكرة والناب عليها حمولته وشبعه وريه فيطرق عليه طارق يسأله شربة ماء فيعقرها له ويدنيها منه ويجمع قومه ليأنس بهم، وهو فرح بأنه قصد داره من بين تلك الدور واختصه بتلك الوفادة، ولا ضير عليه أن يخرج من الدنيا ولا يبقى له فيها إلا حسن الأحدوثة وطيب الذكر.. أما حكمة ألسنتهم فان للعرب في أشعارها ورونق كلامها وضربها للأمثال وبلاغتها في الخطاب ما ليس في سواهم من الأمم، ثم إن خيلهم أجود الخيل ونساءهم أعف النساء ولباسهم أفخر اللباس ومعادنهم الذهب والفضة وحجارة جبالهم الجزع، أما دينهم وشريعتهم فإنهم متمسّكون به حتى أن أحدهم ليبلغ من شدة تمسكه أن له أشهراً حرماً وبلداً آمناً وبيتاً محجوجاً يتنسكون به ويذبحون بباحته ذبائحهم، وبهم من الحلم والشهامة ما يجعل الرجل يلتقي بقاتل أبيه وهو قادر على الأخذ بثأره فيتوسل إليه أن يعفو عنه فيعطيه مطلبه ويهبه حياته، وإن الهارب المحدث ليلجأ إليهم من غير معرفة ولا قرابة فيجعلون أنفسهم دون نفسه وأموالهم دون ماله، وقولك خير ما يطعمون لحوم الإبل، فانهم ما تركوا ما دونه إلا احتقاراً له، فعمدوا إلى أجل البهائم وخيارها وصيروها مركباً لهم وزاداً أن رغبوا بها.. أما قولك لا ملوك لهم يديرون أمرهم فإن المملكة العظيمة يكون بها أهل بيت يُعرف فضلهم على ما سواهم فتنقاد الحشود لذلك البيت وتصبح تحت لوائه، ودور العرب التي تميزت بفضلها وعلمها وحسن سيادتها كُثر فأوشكوا جميعاً أن يكونوا ملوكاً..

انهى النعمان حديثه وتنفس الصُعداء فقد ذاد عن قومه كما يحب ويرضى، فمرأى الأعين المتراصة في هذه القاعة ونظرات الإعجاب التي بدت على مُحياها أعادت له الهيبة التي بددها كسرى بتنقيصه لهم. أما كسرى فقد ندم على استثارة هذا العربـي الذي عَدد محاسن قومه وصاغها بأحسن القول حتى زهت الوفود بقوله وأنصتت له فشد على كفه وقال بهمس: ويحه ما أفصح ما دافع به عن قومه - رفع عينيه إلى النعمان وقال قولاً جهد أن لا يكثر من مدحه فيه - يا نعمان إنك لأهل لموضعك من الرئاسة.. ثم أمر له بعطاء.

فخرج النعمان من مجلسه عائداً إلى الحيرة بقلب غير الذي جاء به، عاد وفي النفس ما فيها مما سمع من كسرى من تحقيره للعرب وتهجين أمرهم..

****

بعد عودة النعمان من بلاط كسرى أنسته مقاليد الحكم وشؤون مملكته بعضاً مما لقيه هناك، أو اختار هو أن يتناساه، فذاك أحكم من أن يجابه من يعتليه ولا طاقة له به.

وللنعمان وزير في عمر الشباب لكنه بحكمة الكهول والشيوخ، قليل الكلام طويل الصمت، إذا نَطقَ نَطقَ بما تَرهف له أذن السامع ويذهل منه العاقل، يحب النعمان مجالسته كثيراً ومشاورته في أموره حتى ما تنحى منها عن الحكم، يحب أن يسمع رأيه ومشورته فيه.

وكثيراً ما يروق له ذلك الرأي.

وفي ظهيرة يوم رائق كان النعمان يحتمي بأسوار قصره وسقوفه من لهيب الشمس، ينادم وزيره ثابتاً ويلاعبه بالشطرنج التي ما أن ينتشي بالانتصار عليه، إلا ويلحق ثابت ذلك الانتصار بهزيمة أقوى منه، والنعمان مستمتع بذلك التنافس الذي يتوقد دائماً.

ولكن في هذا اليوم بدا له أن وزيره مشغول البال، يحرك الأحجار على الرقعة برتابته، فأحس أن وزيره حاضر الجسد معه فقط.

حرك النعمان بيدقه على الرقعة وقال: ما يكدر صفو وزيرنا في هذا الجو الغائم؟

صدرت من الوزير تنهيدة طفيفة قال بعدها: لا أدري يا مولاي هل هذه الوزارة نعمة عليّ أم نقمة! أُحس أنها تثقل عليّ بتكاليفها يوماً بعد يوم.

-إلى ما ترمي يا ثابت! أهذا قولك لولي نعمتك!!

-يا مولاي أنا وزير لملك العرب أجمع، ومن أعظم مهامي القيام بشؤونهم والنظر إليها وذاك تبع لصون كرامتهم وحفظها، لكن عزة العرب تكاد تذوب في بلاط كسرى وأتباعه، وكأن كتفيّ مُثقلتان برفع هامة العرب وعزتهم.

صمت النعمان طويلاً حين نفذ له ما يرمي إليه وزيره ثم قال: يبدو أن حديثي مع كسرى تناقلته الرياح فبلغك.

-كان بـي تشكك منذ زمن يا مولاي، وبعد حديثكما أصبح يقيناً لا يجانب الصواب.

-اهدأ يا ثابت، تلك خواطر تجول في رأس كسرى وشى بها وشاة حاقدون لكني أزلتها وعدلتُ رأيه بنا.

أكمل ثابت لعبه وتمتم: أرجو ذلك.

ضرب الطاولة بأطراف أصابعه بوتيرة متتابعة وكأن أمراً يجول في خاطره ولا يعلم كيف يبديه، والنعمان يرقب شرود وزيره بصمت.

رفع ثابت رأسه وكأنه جمع ما به وأراد أن ينثره لسيده.

-مولاي ما رأيك أن نشيد للحيرة جيشاً قوياً؟

-جيش! وما حاجتنا لذلك الجيش؟

-قد تُقبِل علينا أيامٌ لا يؤمن شرها.

-إن أقبلت فرجالنا يحاربون تحت جيش كسرى ولوائه وهم لنا درع وحصن.

-وماذا إن قلتُ لك يا مولاي، ولتعذرني في قولي، إن كسرى ممن لا يؤمن شَره في مقبل أيامنا.

-ويلك يا ثابت!! ما هذا القول! أنسيتَ أن كسرى من وضعني على عرش الحيرة؟

-لم أنسَ يا مولاي، لم انسَ أنه من وثب على أبيه وقتله واستل الحكم منه, فكسرى لا يرى ذمة لأحد.

احتد صوت النعمان: ويلك يا ثابت لقد أكثرت.

-عذراً يا مولاي ربما كنتُ أرجمُ في غيبٍ لا علم لي به ولقد طلبتُ المعذرة قبل تفوهي بما قلت.

-لا بأس يا ثابت، فنفوسنا هذه الأيام مُثقلة بالشكوك والهواجس –حرك حجارته على الرقعة وأردف- لنكمل يا ثابت فنفسي تنزع للتسلية اليوم.

أسقط النعمان آخر حجر له كناية عن هزيمته، رشف وزيره ثابت من شرابه وقال بمرح: المعذرة يا مولاي، ما كان لي أن أهزمك.

-لا عليك، فلا ضير في هزيمة على رقعة شطرنج، فهي هزيمة بلا سلاح أو قتلى أو حتى أسرى.

المعذرة يا مولاي.

-تكثر من الاعتذار اليوم يا ثابت وأن أقر لك بالذكاء، ولكن هل تعلم لِمَ هزمتني في هذه اللعبة؟

رفع ثابت كتفيه وأجاب بتلقائية: الحظ يا مولاي.

لا أحد يصل إلى هنا

بدأ الأمر بمحاولة انتحار. فعلياً، كان مجرد إعلان شروع في انتحار. قطعاً، ليست هذه البداية الصحيحة لهذه الرواية، لكنني لست روائياً يجيد اختيار البدايات، ولم يخطر لي، يوماً، وأنا أقرأ رواياتي المفضّلة، وهي ليست كثيرة، بأنني أجلس أمام حاسوبي، لكي أروي، بإصبع واحدة، هذه الأحداث.

ولا بأس من الاعتراف بأنني لا أجد متعة في دخول العمارات من بواباتها الرئيسة الوسيعة. لن أقف أمام واحدة من تلك البوابات الحديدية، ولن أضغط على الجرس الداخلي، ولن ألقي تحية الصباح أو المساء، ثم أرمي جسدي على كنبة وثيرة مع كثير من السجائر وفناجين القهوة، وأكتب رواية.

سأبحث، دائماً، عن مدخل خلفي أتسلّل منه إلى روايتي، منتشياً بالفرادة والوحشة، ومسجّلاً بطولة وهمية تضلّل مزاجي الكسول، وتدفعني لإكمال الصعود على سلالم الحريق، من طابق إلى طابق أعلى، لكي أصل إلى تلك النار المشتهاة وأتحوّل إلى غيمة ماطرة تليق بالنهايات السعيدة.

غير أن العمارات المزوّدة بسلالم حريق في مدينة مثل بيروت غير موجودة على الإطلاق. إنه تفصيل معماري أوروبي لم يكترث له البناؤون في مدينة ريفية متوسطية مسحورة بالطراز الغربي. لكنها لحظة اندلاع الحرائق لا تهرع إلى السلالم الخلفية، بل تقفز من الشرفات.

في النهاية، بدأ الأمر من حيث لا أتوقع، حين قررت سميّة البقاعي أن تنهي حياتها. كتبت على حائطها الإلكتروني: هذا آخر نداء استغاثة! واختفت.

في تلك اللحظة، كنت أمام شاشة «اللابتوب» التي أدير من خلالها مجريات حياة أنس المصري، الشخصية الأساسية في رواية أعمل عليها، والتي تورطت في غراباتها إلى الحد الذي دفعني إلى ابتكار حساب وهمي باسمها على «فايس بوك» مع صورة «بروفايل» لرجل غامض يقف على باب الكهولة معانداً، وفي عينيه بريق شباب فولاذي يأبى أن يغادر. كان أنس المصري ينشر قصائد مرتجلة جميلة، وصوراً من طنجة، المدينة التي لم يزرها قطّ، ويدير محادثات على «الخاص» يطوّر عبرها شخصيته التي يجب أن تنسكب في روايتي المتعثرة. وكانت تربطه بسميّة البقاعي علاقة صامتة. يقرأ لها، وتقرأ له، ويتبادلان «إعجابات» محايدة. مع ذلك، يصحّ القول إنها كانت علاقة وثيقة، أقله من جهة أنس الذي كان يحرص على زيارة صفحة سميّة كل مساء.

فعلياً، لم أكن أمام شاشة «اللابتوب» فقط. كانت هناك على بعد مترين، شاشة التلفزيون أيضاً. لم أكن أتابع شيئاً محدداً على الشاشة البعيدة المتوهجة أمام عينيّ. كنت أتأمل، مأخوذاً إلى حد غير متوقع، حفلاً لأم كلثوم تبثّه فضائية متخصّصة بالكلاسيكيات العربية. حفل تغني فيه «إنت عمري»، أول لقاء فني بينها وبين عبد الوهاب بأمر رئاسي من جمال عبد الناصر. ربما جرى تصوير هذا الحفل، بالأبيض والأسود طبعاً، قبل أكثر من نصف قرن. كنت قد قرأت مرة في إحدى المجلات الفنية (أو ريما كان ذلك في مسلسل «أم كلثوم» الشهير؟) أنها اعترضت على كلمة في مطلع الأغنية، هي بالضبط الكلمة الأولى التي بدأ بها الشاعر قصيدته، وأعتقد أنه أحمد شفيق كامل الذي استهلّ بعبارة «شوّقوني عينيك»، وتمكنت أم كلثوم من دفعه إلى تعديلها، لتصبح «رجّعوني عينيك».

لم تكن أغنيات أم كلثوم تعنيني بشكل خاص. كنت ولا أزال ذا مزاج فيروزي. كما لم تكن تعني أنس المصري المفترض أنه عالق في كلاسيكيات زمن غابر منذ يفاعته حين وقع على معزوفتين لأنطونيو فيفالدي، «جوديثيا المبتهجة» و«أورلاندو الغاضب»، وأدرك أنه سيستمع إليهما لزمن غير قصير، ربما يمتد مدى الحياة.

هل يعني شيئاً أنني كنت أعرف بأن لحن «إنت عمري» مشغول على مقام «الكرد»؟ فعلياً، أنا لا أمتلك معارف موسيقية حقيقية، ولكنني أستطيع التمييز بين مقامات الموسيقى الشرقية على نحو جيد، وأعرف أن «الكرد» هو من المقامات الأكثر انتشاراً في الغناء العربي، لما فيه من سهولة وعاطفة تلتقطهما الآذان بسرعة. لعلّي أحبّ «الرست» و«البيات» أكثر من «الكرد»، لكنني لست واثقاً من ذلك. والغريب أن أنس المصري يفترض أن يكون ملماً بهذه الأشياء وغيرها، فهي واحدة من الدلالات الضرورية التي تشير بوضوح بأن كل هذه المعارف العشوائية المستقرة في عقله، هي النتيجة الطبيعية لإنفاقه الكثير من الأوقات وهو يتعلم كل ما تقع عليه يده عن كل شيء وفي أي مكان.

في أي مكان؟ بل لم يكن في تلك الثواني سوى مكان واحد آخر في هذا العالم يدور فيه شيء بين أنس وسميّة. بينهما وحدهما. بدا لي وكأنني مطرود من روايتي.

في «كافيتيريا» مكتب العمل، في الطابق الأول من المبنى العالي الذي يشغل «نوريكوم» طابقين كاملين منه، سألتني مارتا: كيف كان موعدك البارحة في المستشفى؟ أجبتها باقتضاب: لا بأس.

لاحظت مارتا ارتجاف يدي وأنا أحرّك السكّر، ثم وأنا أضع الملعقة الصغيرة قرب الفنجان، ثم وأنا أحمله وأقرّبه من فمي. كنت أهرب من السؤال ومن الإجابة ومن فنجان الشاي الأخضر ومن نظرات مارتا التي تخترقني لتعرف شيئاً لم أكن متيقنة أنني أعرفه. لا بأس، هذا كل ما أعرفه عن كل شيء.

بدا وجهها نحيلاً متعباً في تسريحة شعرها الجديدة مع أحمر الشفاه الحزين الباهت على شفتيها، وقالت إنها تشكو من انسداد دائم في الأنف وألم متواصل في الكتفين. ولهذا السبب، ولأسباب أخرى لم تقلها لي، ستضطر للعمل بنصف دوام.

حليم، زميلنا في العمل كان طوال الوقت مشغولاً على هاتفه المحمول يحاول إقناع زوجته الشابة بشيء ما. التقطنا بعض الكلمات في سياق الحديث، وربما تعمّدنا الأمر، وعلمنا أن تلك الزوجة التي لا نعرفها آتية من «أغادير»، ومولعة بميريام فارس، والأهم أنها لم تعد تحتمل الحياة في بلاد بائسة معتمة باردة في بلاد كهذه.

خرجنا من «الكافيتيريا»، ومع وصولنا إلى آخر الممرّ سمعنا صراخ حليم وهو يكرر: ما العمل؟ ما العمل؟ فقط قولي لي ما العمل؟

سألت مارتا: ما العمل برأيك؟

ابتسمت بأسى وقالت: لا أدري.

غادرنا المبنى معاً وتوغلنا في الشارع المزدحم، ثم توقفنا قليلاً عند إشارات المرور، وما لبثنا أن عبرنا إلى الجهة الأخرى من الرصيف. اجتزنا شارعاً ثانياً، وعبرنا الجسر بصمت.

بعد كثير من الصمت والمطر الخفيف، قالت لي مارتا: مؤسف أنه تزوج! كل يوم، بعد دوام العمل، أحلم به، وبأننا نعود مترافقين إلى البيت بعد الظهر، نصطحب ابنتنا من الحضانة وطفلنا الأكبر من المدرسة، نتسوّق ونعدّ الطعام، نأكل، نشرب القهوة ونجلس كما في كلّ مساء أمام التلفزيون نعم، هكذا هي الحال، يحبون امرأة ويتزوجون بأخرى.

كنت أتساءل لماذا تحلم مارتا به «بعد الدوام» ولماذا لا تفعل خلال الدوام؟ كدت أقهقه! لكنني فعلياً كنت أود أن أقول لها: حتى ولو حصل كل ما تروينه في أحلام يقظتك، فلن يتغير الحال!

back to top