ما قل ودل: ضريبة العقارات المبنية في مصر... البيئة التشريعية والتنفيذية لها

نشر في 09-09-2018
آخر تحديث 09-09-2018 | 00:10
سلطة الإدارة المقيدة في تنفيذ القانون بوجه عام هي الضمان لمشروعية قراراتها، كما أن السلطة التقديرية، وإن كانت ضرورة لمواجهة رجل الإدارة للظروف المتغيرة، فإنها قد تكون مدعاة لفساد الذمم والضمائر، وهو ما كشفت عنه قضايا جهاز الرقابة الإدارية الأخيرة في مصر.
 المستشار شفيق إمام ناشدت في مقالي الأحد قبل الماضي الرئيس عبدالفتاح السيسي التدخل فوراً، لإيقاف العمل بقانون الضريبة على العقارات المبنية في مصر، اكتفاء بضريبة الدخل العام، التي يدخل في وعائها إيرادات العقارات المبنية، وتناولت من بين ما تناولته في هذا المقال المبالغة في تقدير القيمة السوقية للعقارات المفروضة عليها هذه الضريبة. وفي هذا السياق أتناول في مقالي اليوم تصريحاً لوزير المالية الأسبق د. بطرس غالي أدلى به أثناء مناقشة مشروع القانون في مجلس الأمة عام 2008، أسوقه دليلاً على افتقاد هذا القانون، بالسلطة التقديرية الواسعة التي أعطاها القانون لرجال الإدارة في تقدير القيمة السوقية للعقارات، إلى البيئة التشريعية المناسبة لتطبيق مثل هذا القانون.

تصريح بطرس غالي

ولعل أول من أنصف الحقيقة من نفسه، من حيث خشية المغالاة في تحديد القيمة السوقية للعقارات، هو منظّر هذه الضريبة في نظام الحكم السابق بطرس غالي، عندما وعد بأنه سوف يراعي في هذا التقدير أن تكون القيمة التي سوف تتخذ وعاء للضريبة أقل من القيمة السوقية. وفي مقالي بصيحفة الأهرام تحت عنوان "الضريبة على السكن الخاص... محاولة للفهم" في عددها الصادر يوم 21/4/2008، علقت على هذا التصريح بأن تطبيق القانون ليس رهناً بوعود الوزراء حتى لو بقي الوزير في منصبه حتى تطبيقها.

وأعود إلى تصريح الوزير لأسوقه دليلاً على افتقاد هذا القانون للبيئة التشريعية والتنفيذية له، فمن يملك إعطاء أوامر لمنفذي هذا القانون بتقدير أقل للقيمة السوقية للعقارات، يملك أن يعطي الأمر لهم بالمغالاة في هذا التقدير.

القانون لا ينفصل عن بيئته التشريعية التي نبت من جذورها، فلكل قانون بيئة تشريعية، فهو نبتٌ في المجتمع الذي يوفر له بقاءه وارتقاءه، بعد أن نزل كل فرد من الجماعة عن بعض حريته بالقدر اللازم والضروري لقيام الجماعة وقيام سلطة منبثقة منها، لتنظيم العيش فيها، وتقديم الخدمات الضرورية المشتركة للجميع، والضريبة هي وسيلة هذه السلطة لتقدم وتمويل هذه الخدمات.

وكان الوزير الأسبق بطرس غالي في سياق دفاعه عن هذه الضريبة خلال مناقشة قانونها، قد قال بأن الثورة الفرنسية جاءت بالضريبة العقارية، ولكن الوزير مثله مثل من يقرأ الآية الكريمة "لا تقربوا الصلاة" دون أن يستكمل باقيها "وأنتم سكارى". فقد كانت هذه الضريبة تُربَط على أبواب ونوافذ قصور الأشراف والنبلاء، من أعداء الثورة، وكانت من بين أدوات الثورة في القصاص منهم، كالتعذيب والمقاصل والسجون، إلى أن أكلت الثورة أبناءها، فقد فات الوزير كل ذلك، كما فاته أن الثورة الفرنسية أكلت أبناءها كذلك، وأن هذه الضريبة ألغيت في فرنسا منذ أكثر من مئة عام.

كما فات الوزير الأسبق كذلك عندما أعياه الدفاع عن الضريبة باعتبارها ضريبة على الدخل، وما قرره في المناقشات التي جرت حول هذا القانون، بأنها ضريبة على رأس المال، وأنها تفرض في الدول الأخرى، فاته إذا كان يقصد الضريبة التي فُرِضت في بعض الدول الأوربية بعد الحرب العالمية الثانية على السكن الخاص، أن هذا أمر حتمته الضرورة التي واجهت هذه الدول بعد الحرب من أجل إيجاد سكن لمن هُدِمت بيوتهم أثناءها، فلم ترَ مناصاً من فرض ضريبة على السكن الخاص لإلزام أصحابه بأن يشاركهم هؤلاء المشردون في سكنهم للتخفيف من عبء الضريبة عليهم، ولإعادة بناء أوروبا من هذه الضريبة وغيرها.

القانون لا ينفصل عن البيئة التنفيذية

وقد كان الوزير الأسبق صادقاً وجاداً في وعده بأنه سوف يصدر تعليماته بأن يكون تقدير القيمة السوقية للعقارات في تطبيق هذه الضريبة أقل من قيمتها الحقيقية، فقد كان الوزير ملماً إلماماً كاملاً بمجال الجهاز الإداري للدولة، وأن هذا الجهاز يتكون من موظفين ينفذون التعليمات الصادرة لهم، كتابة أو شفاهة، وأنهم يأتمرون بأوامر رؤسائهم ولا يتحللون من بأسها أبداً.

ولعل ذلك كان بادياً من تصرفات رؤساء مأموريات الضرائب العقارية الذين رفضوا قبول الطعون المقدمة من الأفراد في قرارات المأمورية إلا بعد سداد الضريبة كاملة أو بعد سداد نصفها أو بعضها، كل حسب هوى الرؤساء، بادعاء أن هذه هي التعليمات، فصادروا بذلك حقاً دستورياً للمواطن، وهو حق الشكوى الذي نظمه القانون الصادر بفرض الضريبة، الذي لم يتطلب في المادة 16 لقبول الطعن إلا تقديم تأمين قدره خمسون جنيها، وأن قرار ربط الضريبة لا يصبح نهائياً إلا بصدور قرار لجنة الطعن بالبت فيه.

المناخ العام للبيئة التنفيذية

وربما لا تكون هناك تعليمات لرؤساء المأموريات بذلك، إلا أن المناخ العام للجهاز الإداري للدولة، بعد 25 يناير سنة 2011، وانفلات الأمور، والمعاناة التي يعانيها المواطنون من غلاء الأسعار، ومن الضرائب غير المباشرة، ومن رفع الدعم ضمن خطة الإصلاح الاقتصادي، عن الخدمات والسلع الضرورية، ونشوء مجمعات مغلقة على أصحابها، وهي ما يصفونها بـ"compound" والتفاوت الطبقي الكبير بين أفراد المجتمع، وموظفي الطبقة المتوسطة التي يكون العبء ثقيلاً عليها، كلها أمور قد خلقت مناخاً من الكراهية، كراهية أصحاب العقارات وأصحاب السكن الخاص، وهو في ذاته المحرض الأول على إساءة هؤلاء الموظفين للسلطة التقديرية الواسعة التي منحها لهم القانون في تقدير القيمة السوقية للعقارات، التي أصبح ربط الضريبة العقارية عليها مرهوناً بهذا التقدير، بما يفقد وعاء الضريبة الأسس الموضوعية التي تقوم عليها أي ضريبة من منظور العدل الضريبي أو الاجتماعي.

ولا يفوتنا في هذا السياق أن نؤكد حقيقة يعلمها الجميع، وهي أن سلطة الإدارة المقيدة في تنفيذ القانون بوجه عام هي الضمان لمشروعية قراراتها، وأن السلطة التقديرية وإن كانت ضرورة لمواجهة رجل الإدارة للظروف المتغيرة، إلا أنها قد تكون مدعاة لفساد الذمم والضمائر، وهو ما كشفت عنه قضايا جهاز الرقابة الإدارية الأخيرة، بل وصل الفساد الذي كشفت عنه بعض هذه القضايا إلى وزراء، سيق أحدهم من البرلمان إلى نيابة الأموال العامة للتحقيق معه، وقد أدين أحدهم بحكم قضائي.

ونختم مقالنا بأن السلطة التقديرية مفسدة إن لم يضيق نطاقها وتحكم رقابتها.

back to top