ضريبة حروب بوتين

نشر في 06-09-2018
آخر تحديث 06-09-2018 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت للحروب ثمن باهظ، هذا هو الدرس الذي يتعلمه الشعب الروسي الآن، فمع مواصلة الكرملين مغامراته العسكرية في شرقي أوكرانيا وفي سورية، ورغم محدودية مجال تلك الصراعات، يتساءل المرء عن مدى قدرة الدولة الروسية على تحمل تكاليفها فعلا.

ونظرا لاحتلال روسيا المرتبة الحادية عشرة في قائمة أكبر الاقتصادات في العالم، يمكن القول إن بإمكانها إدارة مثل هذا الوضع في المدى القصير فقط، إلا أن المدى الطويل أمر مختلف تماما، ففي الفترة من عام 2008 حتى عام 2016، رفعت روسيا نفقاتها العسكرية من 3.3% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة تماثل تقريبا المستوى الأميركي الحالي إلى 5.3%، وفقا لمعهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام الذي يحظى بثقة كبيرة. وبحسب الإحصاءات المالية للحكومة الروسية ذاتها- وهي إحصاءات تبقى قابلة للزيادة بدرجة كبيرة ومدهشة- فقد بلغت النفقات المدنية في شبه جزيرة القرم المحتلة نحو ملياري دولار في العام، ورغم عدم توافر بيانات عامة بشأن وجودها في شرقي أوكرانيا، لا نبالغ إذا افترضنا أن التكاليف هناك مماثلة تقريبا، مما يعني أن روسيا تنفق أربعة مليارات دولار في العام- أي 0.3% من الناتج المحلي الإجمالي- على هاتين العمليتين وحدهما.

لكن، فضلا عن النفقات العسكرية، تتكبد روسيا تكاليف أخرى تتمثل فيما خسرته من تجارة واستثمارات، إضافة إلى العقوبات المتصاعدة ضدها، وهي عوامل كافية للغاية لأن تدفع البلاد داخل نفق الركود طيلة استمرار الحروب، ففي يوليو 2014، فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على قطاعات الموارد المالية والنفط والغاز وتقنيات الدفاع الروسية، ردا على عدوانها العسكري في إقليم دونباس بأوكرانيا، ولا تزال تلك الإجراءات سارية المفعول حتى الآن، وبما أن الدولار هو ملك النظام المالي العالمي، ونظرا لمرور كل دولار من خلال البنوك الأميركية، تخضع كل التعاملات الدولارية في النهاية لسلطة وزارة الخزانة الأميركية، وبالتالي يمكن للولايات المتحدة من خلال العقوبات المالية أن تحرم روسيا من الاستثمار الأجنبي.

في أغسطس من عام 2015، أشارت تقديرات لصندوق النقد الدولي إلى أن العقوبات الغربية ستؤدي على الفور إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لروسيا (بعد تعديله في ضوء نسبة التضخم) بنسبة تتراوح بين 1 إلى 1.5%، أما في الأمد المتوسط فقد توصل صندوق النقد إلى نتيجة مفادها أن العقوبات "قد تؤدي إلى خسارة تراكمية في الناتج... تصل إلى 9% من الناتج المحلي الإجمالي، لأن انخفاض تراكم رؤوس المال واستمرار عمليات نقل التكنولوجيا تضعف نمو الإنتاجية المتدني بالفعل".

ولم يعد أمام الشركات الروسية، بعد قطع الدولار عنها، سوى تسديد ديونها وقت حلول أجلها، ونتيجة لذلك هبط إجمالي الدين الخارجي لروسيا من 732 مليار دولار في يونيو 2014 إلى 519 مليار دولار في ديسمبر 2015، وظل قريبا من هذا المستوى منذ ذلك الحين.

بالمثل هبط احتياطي روسيا من العملات الدولية من 510 مليارات دولار في نهاية عام 2013 إلى مستوى منخفض بلغ 356 مليارا في مارس 2015، لكن منذ ذلك التاريخ، تعافت الاحتياطات وعاودت الارتفاع لتصل إلى 458 مليار دولار بفضل الفائض المستمر والكبير في الحساب الجاري الروسي، غير أن الاستثمار الأجنبي المباشر في روسيا هبط في الفترة من 2015 حتى 2017 إلى ما دون 2% من الناتج المحلي الإجمالي في العام في المتوسط- أي نصف النسبة السائدة في الأعوام السابقة تقريبا- وهو ما لم يعكس فقط هبوطا في الاستثمار، لكن انخفاضا في واردات التكنولوجيا أيضا.

وفي خضم كل هذا، تمكنت روسيا من الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي وموازين الحسابات الخارجية، لكنها واجهت انخفاضا طفيفا في الإنتاج، وعانت هبوطا كبيرا في مستوى المعيشة، فخلال أربعة أعوام من العقوبات، من 2014 حتى 2017، تدهورت الدخول الحقيقية المتاحة بنسبة 17%، كما هبط الاستثمار بنسبة 12% رغم أن انخفاض الناتج المحلي الإجمالي لم يتجاوز 0.5% خلال تلك الفترة.

في الوقت ذاته، تبادلت روسيا وأوكرانيا فرض عقوبات تجارية متصاعدة على بعضهما، مما أدى لتدهور كبير في التجارة بين البلدين بلغت نسبته 80% في الفترة بين عامي 2012 و2016، وتضررت أوكرانيا من الحرب التجارية بشكل أكبر، لكن روسيا أيضا فقدت سوقا مهمة للتصدير ومصدرا رئيسا لاستيراد المعدات العسكرية، ولم تستورد أوكرانيا من روسيا أي شحنات من الغاز الطبيعي منذ نوفمبر 2015، بعد أن كانت أهم مستورد للطاقة من روسيا.

كذلك تدفع روسيا ثمنا باهظا لمصادرتها أصول الشركات في شبه جزيرة القرم ودونباس، فرفعت الشركات الأوكرانية ثماني قضايا على الأقل ضد الاتحاد الروسي أمام المحكمة الدائمة للتحكيم في لاهاي، بموجب معاهدة للاستثمار المتبادل وقعتها أوكرانيا وروسيا عام 1998، إذ تطالب الشركة عملاقة الطاقة المملوكة للدولة نافتوغاز والشركات التابعة لها وحدها بمبلغ سبعة مليارات دولار كتعويض، في حين يطالب بنكا أوسكادبانك وبريفات بانك وشركة يوكرنافتا بتعويض قدره مليار دولار لكل منهم، وقد فازت مجموعة من الشركات الأوكرانية بالفعل بإحدى القضايا التي رفعتها، فيما يرجح أن تفوز بقية الشركات بالقضايا التي رفعتها. وبهذا المعدل، يتوقع ألا تقل تكلفة المصادرات غير القانونية التي نفذتها روسيا عن 10 مليارات دولار على الأقل. كما فازت شركة نافتوغاز بقضية رفعتها ضد عملاق الطاقة الروسي غازبروم، ففي فبراير الماضي، قضت محكمة التحكيم في استوكهولم بأن تدفع غازبروم 2.56 مليار دولار تعويضا لشركة نافتوغاز لخرقها اتفاقية سابقة بين الشركتين، ورفضت غازبروم الدفع حينها، فما كان من نافتوغاز إلا تعقب أصولها في الخارج، لذا قد يكلف تجاهل مثل هذا الحكم الصادر عن جهة تحكيم تجارية شركة غازبروم كثيرا للغاية في نهاية الأمر.

ومع عدم ظهور حل في الأفق للصراع في أوكرانيا، يرجح أن تظل العقوبات قائمة لأمد بعيد، إذ يغلب على العقوبات الصمود طويلا، لأن الصراعات التي تولدها عادة ما تتضاعف وتتطور لتأخذ أشكالا أخرى، وما حدث في أبريل الماضي خير دليل على ذلك، حيث فرضت الولايات المتحدة عقوبات إضافية على روسيا ردا على تدخلها في الانتخابات الأميركية الرئاسية التي جرت عام 2016. وسببت تلك التدابير الأخيرة هزة شديدة للروبل الروسي وسوق الأوراق المالية هناك، والآن يتزعم الكونغرس الأميركي حملة جديدة بعد قمة بوتين وترامب المريبة في هلسنكي هذا الصيف، فبعد سن قانون مواجهة أعداء أميركا من خلال العقوبات، ينتظر أن يقر ائتلاف من أعضاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي بالكونغرس قريبا مزيدا من العقوبات الأشد حدة، التي من المرجح أن تطول الدين السيادي الروسي والمؤسسات المالية المملوكة للدولة، وقد سبب مجرد التهديد بمزيد من العقوبات الأميركية إزعاجا في السوق الروسية.

ومع توقف معدل النمو السنوي في روسيا عند مستوى هزيل لا يتعدى 1.5%، تُقدر الآن نسبة التكاليف السنوية المدنية والقانونية والتكاليف الأخرى المتعلقة بعدوانها العسكري بنحو 3% إلى 4% على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي، أو 45 إلى 60 مليار دولار. ربما يكون الكرملين قادرا على إدارة الوضع الآن لكن سيكون لتلك التكاليف المتزايدة عواقب سياسية خطيرة، إن عاجلا أو آجلا.

* أندرس آسلوند

* زميل رفيع المستوى في المجلس الأطلسي في واشنطن العاصمة، ومؤلف الكتاب القادم «رأسمالية المحسوبية في روسيا».

«بروجيكت سنديكيت، 2018» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top