المثقف عارياً

نشر في 03-09-2018
آخر تحديث 03-09-2018 | 00:09
 د. عبدالحميد الأنصاري لا نهضة من غير ثقافة بانية، تشكل المرجعية العامة للمجتمع والدولة، والمثقف هو ذلك الإنسان المنتج للمعرفة الذي يحتفظ باستقلاليته الفكرية عن السلطة السياسية من جهة، وعن الرأي العام من جهة أخرى، فلا يتملق الجماهير كسباً للشعبوية والنجومية، ولا يداهن السلطة كسباً للمغانم المالية.

وإذا لم يكن المثقف موظفاً لدى الحكومة يدافع عنها ويهاجم معارضيها، فهو كذلك ليس مثقف الحزب أو الطائفة الدينية أو المذهبية أو القبلية، يبشر بأفكارها ويحامي عنها.

المثقف هو ذلك الإنسان الخلاق فكرياً، الذي يسعى إلى رفع الوعي المجتمعي، والارتقاء بالذهنيات وتغيير النفسيات، ناقداً ذاته وأفكاره في ضوء متغيرات الواقع، وسواء كان المثقف مناضلاً في قضايا الحقوق والحريات أو داعية تنوير، أو منتجاً للفكر: ثورياً كان أو إصلاحياً، فقد تغير مفهومه كما تغيرت النظرة إليه.

وبعد أن كان ينظر إلى المثقف كناقد للمجتمع والسلطة وقائد للفكر ومدافع عن الحريات والعدالة ومنحاز للمظلومين أصبح هو موضع النقد والتشريح والتحليل، سلطته وموقعه.

لاحظ علي حرب، الكاتب والفيلسوف اللبناني، أن المثقفين العرب، دعاة الحرية والثورة والوحدة والتقدم، كانوا قليلي الجدوى في مجريات الأحداث والأفكار التي مرت بها المجتمعات العربية، بل فشلت كل مشاريعهم النهضوية، على اختلاف مشاربهم، علمانيين أو إسلاميين، قوميين أو إشتراكيين، وهذا ما دفعه لطرح تساؤلات حول العلل الكامنة في هذا الإخفاق، ومحاولة الإجابة عنها في كتابه: أوهام النخبة أو نقد المثقف.

يرى حرب أن معظم المثقفين لا يزالون غارقين في سباتهم الأيديولوجي، يرون علة الفشل في الواقع لا في أفكارهم، يسعون إلى قولبة المجتمع حسب أطرهم الضيقة، بدلاً من أن يراجعوا أفكارهم، ويشتغلوا عليها لفهم الأحداث والوقائع، آن للمثقفين أن ينقدوا أنفسهم بدلاً من لوم الآخرين، واتهام السلطات السياسية والدينية، والقفز فوق الوقائع.

وهذا يفسر لنا: كيف أن الحرية تتراجع مع كثرة المطالبة بها، والنهوض يترجم إلى التقهقر، والتنوير العقلي يؤدي إلى انتعاش الفكر الخرافي، والغزو الثقافي يؤول إلى زيادة التبعية.

يؤكد حرب أن المثقفين هم ضحايا أفكارهم، ومشكلة المثقف مع فكره أولاً، ومع نخبويته ووصايته على القيم، وإعطاء نفسه الحق في تقرير ما هو في مصلحة الشعب والوطن، هذه النخبوية الطليعية الاصطفائية الرسالية تجعله يرى نفسه الأوعى والأعلم والأحق، بل (ضمير الأمة)! وهذا هو مأزق المثقف والنخبة.

يطالب حرب المثقفين أن يتواضعوا، فهم في النهاية قطاع من قطاعات المجتمع، وهم لا يشكلون مجتمعاً مثالياً تحكمه العقلانية والقيم، فلهم حسناتهم ومساوئهم، وقطاعهم مجال للتنافس والصراع لتحقيق المكاسب والنفوذ، شأنهم شأن القطاعات والمهن الأخرى، وبقدر ما يتخلون عن نخبويتهم ونرجسيتهم يصبحون أقدر على ممارسة فاعليتهم.

سلطة المثقف:

يعلن المثقف استقلاليته عن السلطة وانحيازه إلى المهمشين والمظلومين في مواجهة سلطة القهر، وهو يدّعي تنوير الناس وتحريرهم، ولا هدف له إلا الدفاع عن قضايا الأمة بتجرد ونزاهة، فهل هو فعلاً كذلك؟! هذا ما يقوله خطابه، لكن الخطاب، دائماً، يحجب أشكالاً من التسلط، ويتستر على آليات من التلاعب، فهو حين يعلن انحيازه إلى المقهورين إنما يخفي تسلطه، صحيح أن سلطة المثقف ليست مادية بل رمزية، لكن لها سلطان على العقول والنفوس، ومعنى ذلك أن الصراع بين المثقف والسياسي ليس مجرد صراع بين المعرفة والسلطة، إنما هو صراع على المشروعية، أي على احتكار قول ما هو حق وباطل، وحين يقدم المثقف نفسه، كصاحب رسالة لا سلطة، فهو يخاتل، لأن المثقف صاحب مهنة، وكل مهنة وراءها مصلحة، وهو إذ يريد تحريرك يسيطر عليك بخطابه، ومن نادوا بالحرية إنما أرادوا التسلط، بل إن المثقفين أقل ديمقراطية فكراً وممارسةً، ولهذا فإن مشاريع التحرير آلت إلى أنظمة استبدادية أو شمولية أو عنصرية.

خاتمة: مهنة المثقف الأساسية الانشغال في إنتاج المعرفة وتغيير الذهنيات، لا الانشغال بتغيير الأنظمة والعالم، فهذه وظيفة الآخرين، والذين خدعوا بمقولة ماركس: «على المفكرين الانتقال من الانشغال بفهم العالم إلى العمل على تغييره» أحبطوا، فالعالم لن يتغير إلا بقدر ما تتغير أدوات فهمه وطرق التعامل معه.

* كاتب قطري

back to top