الشبيبة والثورة

نشر في 01-09-2018
آخر تحديث 01-09-2018 | 00:05
 د. محمد بن عصّام السبيعي منذ عقودٍ خلت لا يكاد يخلو أي من مشاهد المطالبة بالتغيير من وجوه الشبيبة وحديثي الأعمار. وتتباين أدوار هؤلاء في أمثلة عديدة من العالم، ومنها ما يحدث في العالم العربي منذ سبعة أعوام، من قادة أو طلائع، وآخرين يجري تعبئتهم، وغيرهم ممن يجدون أنفسهم فجأة في وسط تلك المعامع، إما لمراهقة متأخرة أو عملاً على منوال الغير ويتعسر عليهم التراجع من ثم.

والحق أن انخراط الشبيبة في موجات التغيير، سواء كان بقصد الإصلاح فحسب، أو نحو تغيير جذري ينسف ما هو ماثل من علاقات ومؤسسات المجتمع، أي ثورة، ذلك يثير تساؤلين على جانب كبير من الأهمية. أولهما يحوم حول مشروعية هذا الدور، أي فيما إذا كان يحق للشباب المطالبة بالتغيير فضلاً عن توظيف الضغط المادي لوضع ذلك موضع تنفيذ. مثار ذلك التساؤل هو تدني الفئة العمرية للشبيبة ووضعها على أرض الواقع كشريحة ما تزال مستهلكة، لا تضيف إلى الموارد الحالية للمجتمع، بل تعتاش على ما راكمته الأجيال السابقة، ومنها الجيل الحالي من البالغين، من رؤوس أموال. ولذا فوضع قرار التصرف في واقع المجتمع أو مصيره في أيدي فئة مفتقرة للخبرة الحياتية وفاقدة أيضا للمسوغ المشروع لذلك هو من قبيل إسناد الأمر إلى غير أهله وعبث بحاضر المجتمع ووضع مستقبله في طريق مجهول. وليس أهل الأمر هنا سوى الجيل الحالي من البالغين المنتجين بوصفهم صانعي نعيمه وحاملي راية من قبلهم والمؤتمنين على ميراثهم. قد لا يرضي هذا الرأي الكثيرين، لكنه حقيقة لا يمارى فيها. فلو هبطنا إلى المستوى الجزئي أو المايكرو، في تناول الأمور فهل يقبل أحدهم، أو يقبل منه إن هو فعل، أن يسند أمور بيته وماليته، أو القول الفصل فيهما، إلى مَن هم عيال عليه؟!

التساؤل الآخر يتناول جدوى انخراط الشبيبة في تلك الحركات وتبديد مجهودهم وزهرة أعمارهم فيها. أجل يمثل الشباب عجينة بكراً يمكن تطويعها للمطالبة بأي غرض من أغراض التغيير، وهم كذلك وقود لا يسرع إليه النضوب لخوض معارك في سبيل هذا وذاك. بل إن وصف حركة احتجاج ما بأنها صنيعة للشباب يضفي عليها طابعا رومانسيا يستقطب التعاطف من كل قريب وبعيد. لكن المرء لا يكاد يذكر حركات تغيير حملت ذلك الوصف أفلحت في نيل مطالبها أو إحراز مناها. ولندلل على ذلل بمثلين من العالم الغربي من حقبة من تاريخه توصف بحق بأنها حقبة الشباب. ففي ستينيات القرن الماضي بلغت الشريحة العمرية للشباب في أوروبا وشمال أميركا حجما فائقا لم تعرفه من قبل. لعل ذلك يعود إلى ارتفاع معدلات المواليد منذ منتصف الأربعينيات في أعقاب انقضاء الحرب العالمية الثانية. كما صادف ذلك أول أعوام من تباطؤ النمو الاقتصادي الذي لم يعرف منذ نهاية الحرب سوى الصعود، مما عناه ذلك من عدم قدرة تلك الاقتصاديات على ضمان توافر فرص عمل كافية ومستوى معيشي ملائم لتلك الفئة العمرية المتضخمة. وقد واكب ذلك أيضا تَفشٍّ للفكر اليساري يفهم التقدم بنفي الحاضر ومصارعته، وكذلك ميول ليبرالية تحررية ناصبت كل موروث محافظ العداء وتربصت به بقصد التغيير. وتطول قائمة المطالب، سواء بالحد من السياسة التوسعية مرورا بترسيخ حقوق الإنسان الطبيعية، إلى حرية مطلقة في ممارسة الجنس.

في ذات الزمان والسياق كانت الولايات المتحدة متورطة منذ 1964 في حرب مباشرة في فيتنام كبدتها خسائر طائلة في العدد والعتاد، وكذلك في المواقع على الأرض. وقد وجد الشباب في مناهضة التدخل الأميركي في فيتنام سببا لتسيير مظاهرات عمت المجتمع الأميركي ودارت في كافة أرجائه. ولم تقف مطالبها عند إنهاء الحرب الدائرة هناك بل نشدت الحد من النشاط العسكري الأميركي في العالم، الذي لم يستقم في معظم أحواله ومبادئ حركة المطالبة بحقوق الإنسان المتأججة في المجتمع الأميركي آنذاك.

وكذلك الأمر في جمهورية ألمانيا الاتحادية. أتى حراك الشبيبة في سياق موجة عمت أوروبا الغربية وتفاعل مع أصدائها. وقد كان لوضع ألمانيا بعد معاهدات الاستسلام الذي خبر تحجيما لنشاطها السياسي الدولي أن انصرف مجهود الجمهورية الوليدة إلى النشاط الاقتصادي، ما أفادت منه رأسمالية متوثبة جعلت من الاقتصاد الألماني مركز الثقل في أوروبا القارية. كما أن مظاهر مجتمع الوفرة والاستهلاك من ناحية، والقائمة من ناحية أخرى على اقتصاديات كفؤة وشحيحة في خلق فرص العمل، وقلة حيلة المجتمع والسياسة حيال ذلك، كل ذلك استتبع تفشي ميول اليسارية، معتدلة أو متطرفة لدى شبيبة بدأت تغتذي على نقد المجتمع. كما أن تحالف كلا الحزبين الكبيرين في النصف الثاني من الستينيات بدا كما لو أطفأ أي معارضة برلمانية، مما دعا الشبيبة إلى حمل لواء المعارضة ونقد المجتمع في الشارع، الأمر الذي بلغ ذروته في 1968 وذهبت في أثره خسائر في الأموال العامة والأرواح من كلا الجانبين.

ولكن عم أسفر كل ذلك؟ لم تنقطع منذ ذلك الحين سياسة التدخل الأميركي المباشر في كافة أنحاء العالم، ومنها ما كان يهدر أبسط حقوق الإنسان. وكذلك جمهورية ألمانية الاتحادية ظلت إحدى الدعائم الكبرى للرأسمالية في أوروبا برغم ما يسم ذلك من اختلالات تعاند هوى الشبيبة.

back to top