«الحسب (لا) يكون من قوم قديم نزلهم بالمدينة»

نشر في 18-08-2018
آخر تحديث 18-08-2018 | 00:09
 د. محمد بن عصّام السبيعي في هذه البقعة من العالم يثير شأن أسبقية الاستيطان عامل توتر دائم في وعي هذا المجتمع، فحلول أسلاف هؤلاء في هذه الديار قبل أسلاف أولئك أو العكس، وذلك استنادا إلى هذه الرواية أو إلى تلك، يمثل سببا متجددا للفرز الإثني وعلة لاستتباعات تتربص باستقرار هذا المجتمع فضلا عن تهديد ترابطه.

فالأمر لا يقتصر على توظيف الأقاويل ذريعة لنيل نصيب دائم وفائق لأنصبة الآخر، في موارد دولة أنهكتها سجيتها الريعية فقط، بل إنه ليتعدى ذلك في ظل تدافع اجتماعي إلى مغالاة محمومة في سبيل ترسيخ فرز قائم أو زرع آخر مختلف، من ذلك تدبيج الكتب والمقالات في فضل هذا في تاريخ هذا البلاد وريادة أولئك في حقبة سابقة من ماضيه. وقد بلغ شأن ذلك مبلغ حرب تتوسل قنوات إعلامية للتقليل من شأن الآخر، إلى درجة نفي أي آصرة تاريخية بين هذا الآخر وهذه الأرض، وهو أمر يسوغ للمرء أن يصفه بحق «تزويرا في التاريخ» على أعلى مستوى.

على أية حال يبدو أن العلاقة بين مطلب النفوذ والشرف أو الحسب من ناحية والأسبقية في الاستيطان من ناحية أخرى سجية بشرية، على الأقل حين تقصر اليد عن القبض على وسائل ترق أخرى خلاقة في عملية الحراك المجتمعي، ففي القرن الثامن الهجري، الرابع عشر الميلادي يتعرض ابن خلدون في الفصلين الثالث عشر والرابع عشر من مقدمته لهذه الظاهرة المتكررة، ويعطي فيها رأيا متسقا مع نظريته العامة في العمران، وملتزما، كما سجيته، بمنهجيته الفذة في ملازمة الواقع.

فهو يقر بأن أس النفوذ أو الشرف بصرف النظر عن مبعثه، أكان نسبا أم سكنا: «إنما هي العصبية، فحيث تكون العصبية مرهوبة تكون فائدة النسب أوضح وثمرتها أقوى، وتعديد الأشراف من الآباء زائد في فائدتها، وتفاوت البيوت في هذا الشرف بتفاوت العصبية، لأنه سرها»؛ ولذا فإنه يرى أنه حيث تغيب العصبية يغيب معها الشرف وغير ذلك، فالحسب والشرف: «لا يكون للمنفردين من أهل الأمصار إلا بالمجاز، وإن توهموه فزخرف من الدعاوى». وعليه يذهب إلى تغليط ابن رشد في قوله إن: «الحسب يكون من قوم قديم نزلهم بالمدينة». أجل فابن خلدون يرصد مثل هذا السلوك الذي طالما كشف عن نفسه أثناء دورات الدول وإفلاس بعضها من استحقاق النفوذ أو جانب من الشرف، إذ يلاحظ: «كثير من أهل الأمصار وغيرهم المنقطعين في أنسابهم عن العصبية يذهب إلى هذا الهذيان»، لكنه يجيب على الفور متسائلا: «ما الذي ينفعه قدم نزلهم بالمدينة إن لم تكن له عصابة يرهب بها جانبه وتحمل غيرهم على القبول منه».

وفي الاتجاه ذاته يذهب ابن خلدون إلى أن شرفا يناله أفراد العصبية لا يقتصر عليهم، بل ينسحب أيضا على من يلتحق بهم من غير نسبهم: «فإذا اصطنع أهل العصبية قوما من غير نسبهم أو استرقوا العبدان والموالي، سواء كان مولى رق أو مولى اصطناع أو حلف، يصير من هؤلاء ويندرج فيهم، فإذا تعددت له الآباء في هذه العصبية كان له بينهم شرف وبيت». وعلى ذلك يبرهن بأمثلة يستلها من أدوار حياة الدول في تاريخ الإسلام، ولا أظن أن ذلك استثناء من تاريخ العالم: «ألا ترى إلى موالي الأتراك في دولة بني العباس، وإلى بني برمك من قبلهم، وبني نوبخت كيف أدركوا البيت والشرف وبنوا المجد والأصالة بالرسوخ في ولاء الدولة، فكان جعفر بن يحيى بن خالد من أعظم الناس بيتا وشرفا بالانتساب إلى ولاء الرشيد وقومه، لا بالانتساب إلى الفرس، وهذا حال بني برمك، إذ المنقول أنهم كانوا أهل بيت في الفرس من سدنة بيوت النار عندهم، ولما صاروا إلى ولاء بني العباس لن يكن بالأول اعتبار، وإنما كان شرفهم من حيث ولايتهم في الدولة واصطناعهم، وما سوى هذا فوهم توسوس به النفوس الجامحة ولا حقيقة له، والوجود شاهد بما قلناه».

صدق ابن خلدون.

back to top