بيت الأكاذيب الأبيض

نشر في 15-08-2018
آخر تحديث 15-08-2018 | 00:08
سجل ترامب في القطاع الخاص يبين أنه يكذب فقط بحكم العادة، ويعتقد آخرون أن وتيرة أكاذيبه وتكرارها وطبيعتها لا تعكس عادة بل استراتيجية سياسية متعمدة لإلحاق الضرر بالمؤسسات المرتبطة بالحقيقة، وفي الحالتين تسبب ترامب في تآكل مصداقية مؤسسات مثل الصحافة، ووكالات الاستخبارات، ووزارة العدل الأميركية.
 بروجيكت سنديكيت بحلول الأول من يونيو من هذا العام، بلغ عدد الادعاءات الكاذبة أو المضللة التي جاءت على لسان الرئيس الأميركي دونالد ترامب 3259، وفقا لقاعدة بيانات مدققي الوقائع التابعة لصحيفة واشنطن بوست، والتي تتعقب وتصنف كل تصريح أو بيان مشبوه ينطق به الرئيس، وهذا يعني أن المتوسط يتجاوز 6.5 ادعاءات كاذبة في اليوم الواحد، ارتفاعا من متوسط 4.9 ادعاءات غير صحيحة في أول مئة يوم له في منصبه، ووصولا إلى 8 في اليوم الواحد في مايو، ومن الواضح أن ترامب يسعى إلى تحقيق رقم قياسي.

يبرر أنصار ترامب اعتياده على الكذب على أساس أن "كل الساسة يكذبون"، والواقع أنهم يكذبون حقا، وقليل من التأمل الذاتي يقودنا إلى الاعتراف بأن كل البشر يكذبون، لكن مقدار ونوع الكذب هو الذي يصنع الفارق، فالإفراط في الكذب يحط من قيمة عُملة الثقة.

ولا تولد كل الأكاذيب متساوية، فبعضها يخدم مصالح ذاتية، وقد يكذب الرئيس لتغطية مساراته، أو تجنب الحرج، أو إلحاق الضرر بمنافس، أو طلبا للراحة.

وتخدم أكاذيب رئاسية أخرى غرضا أسمى، ففي بعض الظروف، يذهب المؤرخون حتى إلى استحسان لجوء أي رئيس إلى خداع عامة الناس من أجل ما يعتبره خيرا أكبر أو خيراً قادما في وقت لاحق، فقد ضلل جون ف. كينيدي جماهير الناس بشأن الدور الذي أدته الصواريخ الأميركية في تركيا في الاتفاق الذي أنهى أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962؛ لكن ذلك كان بكل تأكيد أفضل لمصالحهم من تفاقم خطر اندلاع حرب نووية.

وهناك مثال أقل وضوحا حدث في عام 1941، قبل دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية، ففي محاولة لإقناع الجمهور الأميركي الانعزالي بأن ألمانيا تحت قيادة هتلر تشكل تهديدا، قال الرئيس فرانكلين د. روزفلت إن غواصة ألمانيا هاجمت مدمرة أميركية، في حين كان الجانب الأميركي في حقيقة الأمر هو الذي بدأ تلك الواقعة. في زمن الحرب، عندما تتسبب الألسنة غير المقيدة في تعريض الخطط العسكرية للخطر وعندما تكون الأسرار حاسمة، ربما تصبح الحقيقة، كما قال ونستون تشرشل، "ثمينة إلى الحد الذي يجعل من الواجب علينا أن نعمل دوما على حمايتها بإحاطتها بحرس شخصي من الأكاذيب".

كثيرا ما يشكل الخداع المكيافيلي جزءا من استراتيجية المساومة للتوصل إلى اتفاق، ويزعم ترامب أنه يتقن هذا الفن، وربما يفسر هذا أكاذيبه بشأن أسلحة كوريا الشمالية، والتعريفات الجمركية الأوروبية، وتدخل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2016، لكن عدم أمانته فيما يتعلق بحجم الحشد الذي حضر تنصيبه، أو دفع ثمن السكوت للنساء، أو الأسباب التي دفعته إلى إقالة مدير مكتب التحقيقات الفدرالي السابق جيمس كومي، كلها أكاذيب لا علاقة لها بفن إدارة الدولة، بل كان ذلك استغلالا خالصا للآخرين وعامة الناس لتحقيق مصالح ذاتية.

وحتى عندما لا تكون دوافع الرئيس ذاتية، فيجب عليه أن يتوخى الحذر في اختيار الكذب، فقبل أن يلجأ إلى الكذب كأداة من أدوات الحكم، ينبغي له أن يضع في الحسبان أهمية الهدف، وتوافر وسائل بديلة لتحقيقه، وما إذا كان من الممكن احتواء الخداع أو أنه من المحتمل أن يتسبب في إنشاء نمط معين.

كلما لجأ زعيم إلى خداع عامة الناس، ساهم في تآكل الثقة بشكل أكبر، وإضعاف المؤسسات، وخلق سوابق مدمرة، كان المقصود من أكاذيب روزفلت في عام 1941 إيقاظ الشعب الأميركي، لكنه قدم أيضا سابقة استغلها ليندون جونسون في عام 1964 للفوز بدعم الكونغرس لقراره بشأن خليج تونكين، والذي أدى إلى تصعيد درامي لحرب فيتنام. ومكمن الخطر هنا أن يقنع القادة أنفسهم بأنهم يكذبون من أجل المصلحة العامة عندما يكون الهدف من كذبهم في واقع الأمر تحقيق مكاسب سياسية أو شخصية.

لم يكن جونسون يريد أن يبدو جبانا أو يُقال عنه إنه الرجل الذي خسر فيتنام، فكان يكذب بلا انقطاع على الشعب الأميركي حول التقدم الذي يجري إحرازه في الحرب، كما كان راغبا في إبقاء الحرب محدودة.

تتلخص واحدة من الفوائد المعنوية للحرب المحدودة في منع الضرر من خلال التصعيد، لكن مثل هذه الحروب تنطوي على عنصر من الخداع، ومن أجل الحفاظ على المصداقية في المساومة مع العدو، يتعين على الرئيس أن يعمل على الإبقاء على التفاؤل الشعبي بشكل مستمر، وهو ما يعادل تضليل جماهير الناس. وفي حالة جونسون، تعززت هذه الحتمية بفعل دوافعه الشخصية. وبحلول عام 1968، كان الناس يقولون إن الوسيلة الوحيدة لكي تتأكد ما إذا كان جونسون يكذب هو أن ترى شفتيه تتحركان، وقد قرر عدم خوض الانتخابات مرة أخرى.

كما كذب ريتشارد نيكسون، الذي خلف جونسون، بشأن حرب فيتنام، بما في ذلك توسيعه لرقعتها إلى كمبوديا، وأعقب ذلك كذبه حول الدور الذي أداه في التغطية على اقتحام مقر الحزب الديمقراطي، والذي جرى تنفيذه بأمر من إدارته، وعندما كُشِف عن هذا الدور أخيرا من خلال تسجيلات ووترغيت، استقال نيكسون من الرئاسة في عام 1974 لتجنب الاتهام والعزل.

الواقع أن الضرر الذي أحدثه جونسون ونيكسون لم يكن لمصداقية رئاستيهما فحسب بل أيضا لثقة جماهير الناس، ففي بداية الستينيات، أظهرت استطلاعات الرأي أن ثلاثة أرباع الأميركيين كانوا يتمتعون بثقة كبيرة في الحكومة، وبحلول نهاية العقد التالي تقلصت النسبة إلى ربع الأميركيين فقط، ورغم أن أسباب هذا التراجع معقدة، فقد أدت الأكاذيب الرئاسية دورا ملموسا.

يزعم بعض المراقبين، في الإشارة إلى سجله في القطاع الخاص، أن ترامب يكذب فقط بحكم العادة، ويعتقد آخرون أن وتيرة أكاذيبه وتكرارها وطبيعتها لا تعكس عادة بل استراتيجية سياسية متعمدة لإلحاق الضرر بالمؤسسات المرتبطة بالحقيقة، وفي الحالتين تسبب ترامب في تآكل مصداقية مؤسسات مثل الصحافة، ووكالات الاستخبارات، ووزارة العدل الأميركية، الأمر الذي جعل كل شيء يبدو نسبيا ويصب في صالح قاعدته الشديدة الولاء له.

ولكن هل تتمكن أميركا من التعافي بعد ترامب؟ يجدر بنا أن نتذكر هنا أن جونسون ونيكسون كانا سلفا لجيرالد فورد وجيمي كارتر، اللذين كانا أكثر صدقا بشكل ملحوظ، وأن الثقة العامة في الحكومة ارتفعت بعض الشيء في عهد رونالد ريغان في ثمانينيات القرن الماضي، ولكن كما يشير هذا العدد الهائل من الأكاذيب فإن الولايات المتحدة لم تر من قَبل قَط رئيسا مثل دونالد ترامب.

* أستاذ في جامعة هارفارد، وهو مؤلف كتاب "هل انتهى القرن الأميركي؟". جوزيف س. ناي*

back to top