عندما نكبر (2)

نشر في 13-08-2018
آخر تحديث 13-08-2018 | 00:00
 فوزية شويش السالم ولأجل ألا تخاف ارمِ نفسك في قلب المغامرة، وفي عين العاصفة، وقل ماذا سيحدث؟ ربما ستعاني بعض المتاعب وشيئا من المشاكل، وستقول لنفسك حينها إنك كنت في غنى عنها، وكان الأجدر بي ألا أغامر، وألا أخرج من جُحري، كنت مرتاحا مطمئنا وأنا بعيد عنها، حتى إن لم تصلني شمس البهجة والفرح، لكني كنت في أمان ساكنا جليديا.

إن استسلمت لهذه المخاوف، فإنك ستعوق حياتك، وستهرول بسرعة للانكباب على العجز والشيخوخة، وستتعب وتُتعب مَن حولك، وستتعاظم الوساوس والهواجس والظنون، وتتراكم المخاوف وتتضخم، وتغطيك من رأسك إلى أخمص قدميك.

انظر ماذا سيحدث إذا قوَّيت قلبك وعزيمتك، وخرجت من قمقم الحسابات والاحتسابات المعوقة لجريان نهر الحياة في داخلك، وقلت بصوت تسمعه كل حواسك: ماذا سيحدث ليحدث، سأغامر لأعيش كل لحظات التغيير المبهجة، وليكن ما يكون.

ساعتها، أي وقتذاك، ستشعر بفرحة طفل يكتشف حلاوة عالم يضج ببهجة نبض الحياة، وأنه لا شيء من محاذير المخاوف له أي وجود من حوله؛ الناس يمضون في نشاطهم، والشمس تدفئ المشاعر، والهواء معبأ بأريج الصيف المتفتح، وأن كل شيء على ما يرام، وأنك سافرت أميالا، وعبرت بلدانا متعددة، ونزلت في مطارات مختلفة، حتى وصلت إلى هدفك بعد سفر طويل قطعته لوحدك دون رفقة أحد إلا صحبتك لذاتك، وأنك تخلصت من هواجسك ومحبطات كل مَن حولك.

الحياة تستحق المغامرة للوصول إلى جائزتها، لأنه لا خيار أمامك إلا أن تجازف وتغامر، متخطيا كل الأوهام المحبطة لك، وسيقول بعضهم هذه مغامرة ومقامرة، أجل حتى المقامرة لها منافعها التي تحفز وتلهب الدوافع للوصول إلى شغف جائزة نيل شرف الحياة.

رأيت هذا الواقع مع كثير من الأهل والأصدقاء والأقارب قتلهم وعوَّق حياتهم خوفهم وخوف مَن حولهم عليهم عندما كبروا، وباتوا أسرى للرهاب والمخاوف والقلق من عدم استطاعتهم اجتياز عتبة الحياة وحدهم دون طلب المساعدة من أحد، وأحيانا حتى تجاوز عتبة البيت بات يعني لهم مغامرة لا تستحق الاجتياز، وأن الأمان كله يكمن داخل جدران تحوطهم وتحميهم، حتى ارتخت العضلات وضعفت إرادة القفز خارج قفص المخاوف، وباتت عبئا لا يعرفون كيفية التعامل معه، وخاصة عندما ينشغل الأبناء بأعباء العمل والبيت وأولادهم، حينها مَن يستطيع حمل وحدتهم وتحملها ومشاركتها معهم؟

علينا تعلم كيفية مصاحبة الوحدة بمحبة واطمئنان، والنظر إليها كرفيقة درب حبوبة، واعتبارها مصفاة ومنخلا لكل ما مضى من تجارب عمرنا، وما عشناه من أفراح وآلام اجتزناها وخبرنا حلوها ومُرها، أحزانها وسعادتها، وما هي إلا اختبارات عبرناها بنجاح، دليله أنه ما زلنا نعيشها ونتذكرها بحنان حتى الآن.

حينما نتعلم مصاحبة الوحدة ندرك أنها ليست سيئة إلى هذا الحد، بل إنها نتيجة قيمة رفاهية عزلتنا، وما تمنحنا إياه من صفاء في الرؤية، وشفافية رائعة حنونة، حتى إن تغلفت بالشجن، وتبللت أحيانا بالدموع والحنين للمفقود من ذكرياتنا، لكنها تجعلنا ننظر إلى كل ما حولنا بمحبة وعطف ورأفة ورضا، وهذه أكبر جائزة يمنحها العمر لنا عندما نكبر وندرك فضيلة التسامح.

الشاعر مبدع الصورة الشعرية جمال القصاص له قصائد كثيرة تصوِّر الوحدة والعزلة الشفافة الصافية التي وحدها تهب للشعر وقوده "كل يوم تقل قدرتي على تحمُّل نفسي/ أخشى ألا أتذكر أنني كنت هنا / مشيت في هذه الطرق / قابلت هؤلاء البشر / رسمت هذه الصور / انتسبت لشيء ما / حين تكون وحيدا / لا شيء سوى ظلك / بالكاد يعبر بك الشارع / ربما تحس أنك متواجد في المكان / أن الهاوية طفلة / تدرِّب نفسها / على السقوط بمحبة / تحت قدميك".

وهذا مقتطف آخر من ديوانه (جدار أزرق): "هذا مأزق النعمة / معنى أن تعبر النهر وحدك / أن تقيسه بمساحة المطر/ بجرس لا يعرف كم نجمة صالحة للغرق./ ليس لدي وقت هنا / لا أشتهي رفوفا أخرى تزاحمني فراغي / عزلتي في داخلي / دائما لا أنسى أنني راحل / أنني أديت مهمتي بسلام / تألمت لمساحات الخراب في الوجوه / نخلتها في خطوتي الصغيرة / كي أذهب أبعد من ظلي / كي أصون هبائي".

back to top