الندم... غربال!

نشر في 09-08-2018
آخر تحديث 09-08-2018 | 00:00
 مسفر الدوسري الندم ليس حائط مبكى أخطائنا، كما نظن، وليس قطعة القماش التي نمسح كفوفنا بها من الدم، بعد أن نقترف خطايانا، وليس تلك المياه المالحة التي نفيض بها من أحداقنا لنغسل بها ثياب ذنوبنا، لتعود ناصعة البياض، وليس هو من فيض عطايا النفس اللوامة التي تهدهد وطأة الخطيئة.

الندم معصرة إنسانيتنا، وليس ذلك العطر الذي نقرِّبه من أنف إنسانيتنا لتصحو من غيبوبتها، ولا ذلك الألم الذي نحسه بسبب وخزة لضمائرنا لتتنفس، وليس هو كذلك قبلة الحياة لها. كل تلك الأعراض والمشاعر ليست سوى حيل وخدع اخترعناها لنوازن بين الجمر والماء، في محاولة للتصالح مع وسائدنا.

الندم هو ما يؤهلنا لحماية ورقة التوت التي تستر عتمة إنسانيتنا ما تبقى من عمر الصبح في أعماقنا، وهو فلتر أرواحنا من شرورها، والمكلف بإعادة تشكيل طيننا الإنساني، وليس بقراءة صحيفة أخطائنا ولوم خطايانا، إنه الوجع الذي يظل رقيبا لقلوبنا، ويبقي أرواحنا على بُعد خطوة من جمرته، ليبدأ في إجراء إصلاحاته في أعماقنا بكل ما يستلزم من أدواته الحادة والقاسية، يعالج غرور ذنوبنا، في ذل الرجاء في طلب السماح، يضعنا أمام مرآته ومرآة عراة، ليبحث في داخلنا عن شجرة الليل، يحدث ألا يجدها أحيانا، لكنه يقتفي قطع الظلام التي تساقطت منها داخلنا، فيسكب عليها سائلا شبيهاً بحرقته ماء النار، عنيف في عقاب أشواكنا السوداء التي تكسو جلد نوايانا، قاسٍ في تقليم أظافر سوء أفعالنا، كل شوكة ينزعها من الروح تتطلب بعدها عناية فائقة من الحزن، ومشرطا حادا من القسوة، من غير المجدي ضماد خطيئتنا بعد جرحنا لآخر، ولا حتى تشفّيه ضمادا شافيا لنا. الندم يضخّم إحساسنا بالذنب، بغض النظر عن حجم انحراف قلوبنا عن صراط فطرتها السليمة، ويكبّر حجم أخطائنا لنبدو أمام مرايانا أصغر مما نحن، لنعيد ضبط جماح سوئنا، ونرشد بوصلة النور لمخابئ العتمة فينا، إنه لا يداري سوءاتنا بعذر خيانة الصواب، بل يغرس فيها سكيناً من لهب، يبقى أثرها وشماً على جدار القلب.

الندم ليس منديل قطن يجفف ماء وحل، إنه الغوص في أعماق الوحل لإخراج التراب، تربية شاقة لشهوات النفس الأمارة ليس دائما بصلاح أعمالنا.

الندم ليس جرس إنذار، بل البدء بالهدم، لا يمكن للقلوب الخروج من قبضة عقابه قبل أن يجتث منبت الشر فيها، والذي أثمر صفات حالكة المرارة فينا، ليجعل منه دواء يسقيه قلوبنا كلما انهكها الظمأ. لن نشفى من نبتة الشر تلك، حتى نتجرع خلطة الندم هذه. هذا ما يفعله الندم لتنقيتنا من قبحنا من الداخل: غربلة ما يتبقى بنا من بياض بعد كل سواد نسرّجه!

الندم لا يعيد إنسانيتنا إلى رشدها، لكنه يعيد صقلها.

back to top