«دابة بكماء تُقاد إلى مسلخ»

نشر في 05-08-2018
آخر تحديث 05-08-2018 | 00:07
التاريخ يعطينا أمثلة واضحة عن دول وقادة انتهكوا حرية الرأي والتعبير، وسجنوا مجتمعاتهم في أقبية من التعتيم والإنكار، وخطفوا الوعي العام، معتمدين على القوة الخشنة من جانب، وجوقات المديح الذي يصدح بـ"مناقبهم" ويتغزل في "أمجادهم" بلا انقطاع، من جانب آخر.
 ياسر عبد العزيز يقول الزعيم التاريخي الأميركي جورج واشنطن في أحد أقواله المأثورة الملهمة: "إذا سُلبنا حرية التعبير عن الرأي، فسنصير مثل الدابة البكماء التي تُقاد إلى المسلخ".

لقد ظهر مضمون هذه الحكمة البصيرة واضحاً في أداء آباء الولايات المتحدة الأميركية المؤسسين، الذين أدركوا خطورة القمع والتعتيم، فحرصوا على حماية مبدأ حرية الرأي والتعبير، وجعلوا منه التزاماً صارماً في الدستور، وأدرجوه في معظم الأدبيات القانونية، وعملوا على صيانته في الكثير من الممارسات العملية، التي تلت تأسيس تلك الدولة العظمى.

ليست تلك محاولة لمدح النظام السياسي في الولايات المتحدة، ولا سعياً إلى التغطية على الكثير من المثالب التي تصدر عنه، وبعضها، كما نعلم جميعاً، يتعلق بمواقف سياسية ذات طبيعة استعمارية، ونزعات تدخل في شؤون الآخر، وصولاً إلى غزو الدول المستقلة، وارتكاب جرائم الحرب في بعض الأحيان.

لا يمكن نفي أن النظام السياسي الأميركي يسعى إلى تفريغ التزامه حيال حرية الرأي والتعبير من مضمونه أحياناً، ويغض الطرف عن الجرائم التي تقع بحقها، في بقاع مختلفة من العالم، طالما كانت تصدر عن أنظمة سياسية موالية وصديقة في أحيان أخرى، لكن هذه الانتهاكات والاختراقات لا تصمد أمام حقيقة أن الدولة والمجتمع الأميركيين يدركان أهمية صون هذا الحق وضرورة الدفاع عنه، ويجتهدان، في التحليل الأخير، لتحقيق ذلك.

يعطينا التاريخ أمثلة واضحة عن دول وقادة انتهكوا حرية الرأي والتعبير، وسجنوا مجتمعاتهم في أقبية من التعتيم والإنكار، وخطفوا الوعي العام، معتمدين على القوة الخشنة من جانب، وجوقات المديح الذي يصدح بـ"مناقبهم" ويتغزل في "أمجادهم" بلا انقطاع، من جانب آخر.

لكن استعراض تلك التجارب والأمثلة يشي بوضوح أن سياسات القمع والتعتيم لا تعطي الثمار المرجوة أبداً.

يعتقد بعض الباحثين أن التطورات التي طرأت على المشهد الاتصالي العالمي، بفعل التزاوج البديع بين المحتوى الفكري والإعلامي من جانب وتجليات تكنولوجيا الاتصال من جانب آخر، هي العامل الأساس في تخطئة سياسات القمع والتعتيم، وفضح عوارها وانقطاعها عن الفاعلية، وهو اعتقاد يحتاج إلى مراجعة.

لقد ظهر خواء تلك السياسات وانكشف عجزها قبل ظهور الثورة التكنولوجية الأخيرة، وبدت عاطلة عن النجاعة قبل استشراء نفوذ "السوشيال ميديا"، وتضعضع آليات التحكم في الفضاء الاتصالي بفعل ثورة الفضائيات.

كان هتلر عنواناً بارزاً في ذلك الاستخلاص؛ إذ عمل الإعلام النازي الألماني بمبدأ "اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الآخرون"، وسخر منظومة ضخمة ومتقدمة، بمعايير منتصف القرن الفائت، تبث الأكاذيب والدعايات الفارغة على مدار الساعة، وتتخطى القيود والحدود، لتصل إلى الشعوب المستهدفة، لكن النتيجة كانت هزيمة مذلة وخسارة تاريخية للمشروع النازي.

لم يكن موسوليني في إيطاليا أفضل حظاً من حليفه هتلر؛ إذ أخفقت وسائل الدعاية الفاشية الضخمة في حماية حكمه، ليلقى مصيراً شبيهاً بذلك الذي لاقاه شريكه في الحرب العالمية الثانية.

وفي عالمنا العربي، ثمة ثلاث تجارب موحية في هذا الصدد؛ في ليبيا، وسورية، والعراق، وهي دول امتلكت إمكانات واعدة، وموارد ضخمة، وشعوباً وثابة إلى التقدم والحرية، لكنها خضعت لثلاثة أنظمة قرأت في كتاب هتلر، ولم تستمع لنصيحة جورج واشنطن.

كان النظام الإعلامي العراقي في عهد صدام حسين مثالاً للنظام المغلق، الذي يقوم ببساطة على بث رسالة واحدة لا تتغير مهما كانت الأحداث وتعاظمت الخطوب: مديح القائد الركن الفذ الملهم، وإهانة أعدائه.

وفي ليبيا، تحولت وسائل الإعلام، في عهد معمر القذافي، إلى فرق موسيقية تعزف ألحاناً لا تنقطع في التغني بمناقب "المفكر والفيلسوف والزعيم الأممي وملك ملوك إفريقيا".

وفي سورية، لم تتوقف وسائل الإعلام منذ صعد حافظ الأسد إلى قمة السلطة عن مديح القائد والتغني بمناقبه، فيما أبقت جمهورها أعزل من كل معلومة، وتائهاً عن أي حقيقة، مسلوباً مختطفاً في أبعد نقطة عن الإدراك.

لكن هذه الأنظمة القمعية الصارمة لم تفلح في صيانة الأمن والاستقرار، ولم تنجح في حماية الدولة، أو اتقاء الهزائم المرعبة.

يسود اعتقاد بين بعض الباحثين وصناع القرار أن الهوامش التي تركها الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك لوسائل الإعلام في العقد الأخير من حكمه، والحرية النسبية التي تمتعت بها بعض الصحف والفضائيات واستخدمها ناشطو "السوشيال ميديا"، كانت سبباً رئيساً في إطاحته.

إن ذلك الاعتقاد خاطئ؛ إذ منحت تلك الحرية النسبية نظام مبارك فرصة البقاء لعقد كامل في السلطة بعدما كان استنفد كل ذرائع الاستدامة، ولم يكن "التنفيس" الذي منحه نظامه للمجال الإعلامي الوطني سوى الحل الوحيد للحصول على هذه المهلة الزمنية في السلطة.

فعندما تمت الإطاحة بمبارك لم يكن له سند حقيقي من جماهيرية أو شعبية؛ فلا العمال معه، ولا الفلاحون يناصرونه، ولا الطبقة الوسطى تشعر بأنه يخدم مصالحها، ولا الأجهزة الأمنية راضية عن خطته للتوريث، ووسط هذا الافتقار البين لأي ركائز يمكن أن تديم سلطته وتصونها، لم يكن هناك سوى قدرة الناس على الكلام.

يمكننا أن نستخلص العبر أيضاً من تجربة الرئيس التركي إردوغان؛ الذي مر بمرحلتين رئيستين في تعامله مع النسق الإعلامي في بلاده، وما يستتبعه من التزامات تجاه حرية الرأي والتعبير.

سيظهر لنا بوضوح أن الفترة التي بنى فيها أمجاده منذ صعد إلى السلطة في العام 2003، حتى نهاية العقد الفائت، هي ذاتها الفترة التي حقق فيها النمو الاقتصادي السريع المطرد، والإصلاح الإداري والمالي، وتمتين مكانة الدولة إقليمياً ودولياً، بموازاة الحرص على إتاحة حرية الفكر والكلام، عبر سياسات إعلامية منفتحة نسبياً، سمحت لأصحاب المصالح بالتعبير عن مصالحهم ومواقفهم وآرائهم.

وعلى العكس تماماً، عندما بدأ إردوغان يكشف عن نزعة شمولية، وتشبث بالبقاء في السلطة، عبر الالتفاف على الاستحقاقات السياسية والدستورية، ظهر التراجع الاقتصادي، وتضعضع المكانة، وزيادة القابلية لتلقي الضغوط، بموازاة سياسات قمع الإعلام ومصادرته وتخويفه.

ليت القادة والمخططون يدركون أن قمع حرية الفكر والتعبير أول طريق الانهيار.

* كاتب مصري

back to top