د. عايد الجريِّد... والنادي الأدبي الكويتي 1924 (9)

نشر في 02-08-2018
آخر تحديث 02-08-2018 | 00:10
 خليل علي حيدر الكويت والبهائية

كانت "محاربة البدع والخرافات" إحدى مهام النادي الأدبي في الكويت عام 1924، إلى جانب نشاطاته الأخرى التي يشرحها د. عايد الجريِّد في كتابه، ويعدّ الباحث "البهائية"، ضمن هذه البدع والخرافات! وقد ظهرت "البهائية" في إيران خلال القرن التاسع عشر على يد ميرزا حسين علي نوري (1817-1892) الذي اشتهر لاحقاً باسم "بهاء الله"، كما اشتُهر معه كبير دعاته "سيد علي محمد" والملقب بـ"الباب" (1819-1850)، وتُعد كتاباتهما مقدسة لدى أتباع الديانة في كتاب اسمه "كتاب الأقدس"، وتقول إحصاءات عام 2016 إن عدد أتباعها نحو ثمانية ملايين (7799000) عبر العالم، ويعيش أغلبهم في دول آسيا وإفريقيا.

(The world Almanac 2017 New york, U.S.A. P. 698)

يقول د. الجريِّد: "إلى جانب إعداد النشء وتنمية مواهب الشعراء الشباب، أخذت المسائل الدينية حيزاً من محاضرات النادي، خاصة وأن أحد الأساتذة العرب اكتُشف بعد تعيينه بالمدرسة المباركية والأحمدية، أنه يدين بالبهائية ويدعو لها".

(النادي الأدبي، ص105)

ويشرح د. الجريِّد البهائية في الهامش، من واقع إيمانه وعقيدته كمسلم، فيقول إن "البهائية فرقة ضالة، موطنها الأول إيران، وتنسب إلى رجل لُقّب (بهاء الله)، وقد ادعى هذا الشخص النبوة والرسالة، ثم ادّعى الألوهية، وزعم أن الله حلّ فيه، تعالى الله عما يقوله علواً كبيراً".

وقد يكون هذا التعريف والشرح مناسباً للنشرات والكتب التي يكتبها الدعاة الإسلاميون في كل مكان، ولكنه لا يصلح إطلاقا في بحث تاريخي علمي محايد، لا يهدف أساساً إلى دراسة الديانة البهائية، ولا يتناول عقائدها وتاريخها بالشرح.

ونعود إلى هذا الأستاذ العربي، الذي تحدث عنه المؤرخ عبدالعزيز الرشيد في كتابه "تاريخ الكويت"، وهو الأستاذ "محمد خراشي الأزهري المصري المنفلوطي"، الذي كانت للمؤرخ الرشيد معه تجربة معروفة.

يقول المؤرخ الرشيد تحت عنوان "فتنة محمد الخراشي في الكويت وفي الخليج الفارسي" أنه، كما يشرح المؤرخ القدير، "رجل وفد إلى الكويت من الزبير فنزل في ضيافتي، وهناك قمتُ بحقها، وكنت أول المعجبين به وبعقيدته السلفية التي كان يتظاهر بها حتى سعيتُ في توظيفه معلماً ومديراً للمدرستين (المباركية) و(الأحمدية) وتوظف فيها فعلاً، ولكنه ويا للأسف انعكس وانتكس، فخلّف له في الكويت آثاراً سيئة".

ويستطرد المؤرخ في وصف تصرفات وسلوك "الخراشي" ويقول عنه إنه انغمس "بالفسق والفجور ومعاقرة للمسكرات والخمور وميل للشهوات البهيمية، ومجاهرة بالإفطار في رمضان، وترك للصلاة... إلخ".

ويضيف المؤرخ الرشيد أن "الخراشي" كان يتظاهر بالسلفية والإسلام لكنه كان على عقيدة "البابية" التي كان يدعو إليها سراً، وقد "علمت ذلك منه دون غيري لطول عشرتي له وكثرة ما يدور بيننا من الأبحاث في شأن هذا المذهب"، ويقول عنه كذلك "رأيته سليط اللسان وكثيراً ما كان يغلظ القول في زعيم مصر الأكبر سعد زغلول، ويرميه بأَفَن الرأي، وسخف العقل".

(الطبعة الجديدة من تاريخ الرشيد التي صدرت تحت إشراف الأستاذ خالد عبدالقادر الرسيد، 2016، ص 155-163).

ويبدو من انفعال المؤرخ الرشيد وما يورده في "تاريخ الكويت" أنه ربما لم يقل كل شيء عن الرجل، ولم ينفِّس عن استيائه كاملا، ويبدو أن "الخراشي كان داعية نشطاً كالكثيرين من دعاة البهائية، ونشط في نشر أفكاره في العراق ومصر والكويت بشيء من المداراة والحذر قدر استطاعته، ونحن لا نملك أي دراسة موضوعية محايدة لنشاط "الخراشي" في الكويت ومجموعة الكويتيين والمقيمين الذين كان الأستاذ المصري على صلة واحتكاك بهم من خلال المدرسة أو المحاضرات والأحاديث العامة. فمثلاً، يقول المؤرخ الرشيد: "في آخر رمضان سنة 1344هـ- 1925م بعد أن استقال محمد خراشي من المدارس ألقى محاضرة طويلة في النادي الأدبي في الكويت في البهائية وعقائدهم وتراجم رجالهم وأطنب في مدح عباس أفندي أحد زعمائهم وفي أخلاقه ومعارفه حتى خيل للبعض أنه ليس من البشر وكرَّ على شيء من عقائدهم بالنقض والإبطال ذراً للرماد في العيون، ألقى هذه المحاضرة فازددتُ يقيناً في أن الرجل من دعاة هذا المذهب بلا ارتياب، وإلا فما الباعث لها ولا بهائية في الكويت ولا دعاة، زادتني يقينا على يقين فعارضته بعد أن انتهى ونبهت القوم إلى أنه كان متهماً بهذا المذهب، وسردت لهم شيئا من البراهين الدالة على ذلك، غير أنه تبرأ من هذا المذهب إذ ذاك وأنكر ما قلت إنكاراً باتاً، وما كان ذلك إلا ليخدع الحاضرين ويموه على عقولهم، وقد فاز بما يريد في تلك الساعة، فإن القوم آمنوا بما قال وصدقوا واستغربوا معارضتي".

(تاريخ الكويت، ص162)

وقد شهدت المكتبة العربية الإسلامية، كما هو معروف في إيران خاصة، صدور عدد هائل من الكتب والنشرات والمقالات ضد البهائية والبابية، وقد اتهمتا في إيران، وبخاصة البهائية، بالعمالة للاستعمار، وفي العالم العربي بالارتباط بالصهيونية، وبخاصة أن "بهاء الله" الذي اعتقلته السلطات العثمانية في أدرنة بتركيا، ثم في عكا 1868 بفلسطين، توفي بعكا في مايو 1892، تاركاً سلطته الدينية لابنه الأكبر "عباس أفندي" الملقب "عبدالبهاء" الذي توفي بدوره عام 1920. وتعد عكا وحيفا، وفيها مدافن قادة المذهب، بمثابة قبلة البهائيين اليوم، مما يجعلهم يسافرون دوماً إلى إسرائيل.

إن بعض حدة هجوم المؤرخ الرشيد على "الخراشي" والبهائية امتداد وصدى لهذه الحملة الإعلامية أو الدعوية العريضة ضد البهائية، وهو شيء متوقع من مؤرخ وشيخ دين كالرشيد، "سلفي العقيدة" وعلى علاقة واسعة بالمؤسسات الشرعية والصحافية الدينية في مصر وبغداد والجزيرة العربية، والتي كانت تشنّ بدورها حملات قوية مستمرة ضد هذه الديانة. وكان الهجوم على البهائية أقوى وأشد في إيران نفسها التي شهدت خلال القرن التاسع عشر مذابح ضدهم، وجنّد الكثير من رجال الدين الشيعة أقلامهم وجهدهم في هذه الحملة، وأصدروا آلاف الكتب والمنشورات والمقالات التي نعتت البهائية بكل الصفات، وبالغت في تحقيرهم، وقد اشتدت هذه الحملة بين مراجع الشيعة في السنوات الأخيرة من حكم الشاه وبالطبع بعد الثورة الإسلامية والنظام الحالي الذي حرمهم من حقوق المواطنة تقريباً.

ومن بين الكتب الفارسية التي صدرت مثلاً في إطار هذه الحملة المعادية للبهائيين في إيران، كتاب أصدره "سيد محمد مهدي مرتضوي لنكرودي" عام 1963 بعنوان بالغ الاحتقار للآخر، والإلغاء للمختلف في دينه عنك، والعنوان بالفارسية "إِمشي بحشرات بهائي"، وترجمة العنوان "رش مبيد الحشرات- أو الإمشي- على الحشرات البهائية". (طباعة طهران، مطبوعات فراهاني، 1343 هجري شمسي، ويسمى الـDDT إمشي بالفارسية، وهكذا كانت تسمى في الكويت).

وباختصار ونحن نعود إلى موضوعنا أي النادي الأدبي، نتفهم كما ذكرنا مواقف رجال الدين في إيران والعالم العربي إزاء البهائية، واستخدام عبارات دينية ضدها مثل "الفرقة الضالة" أو "الكافرة" أو "المبتدعة" أو غير ذلك، ولرجال الدين أن يعبروا عن مشاعرهم وأحكامهم بإصدار هذه الأحكام على الأديان والمذاهب المخالفة في كتاباتهم ومواعظهم، ولكن هل لهذه المصطلحات علاقة بالبحث العلمي والتاريخي المحايد؟ وهل التحليل التاريخي الموضوعي المحايد، مثل الوعظ الديني؟ وهل يحق للمسلم المتدين وهو يكتب ويبحث في إطار أكاديمي، أن يشنّ هجوماً على أتباع أي دين، في حين يتناول تاريخ ناد أدبي لا علاقة له بالبهائية إلا بشكل عابر؟!

ثم ألا يكتب المسيحيون واليهود وغيرهم كتباً في التاريخ، وفي الدين الإسلامي، الذي لا يُعتبر الدين الصحيح وفق عقائدهم وإيمانهم، لكنهم لا يستخدمون أوصافاً مهينة بحق الإسلام، بحجة أن المسلم مثلاً يؤمن بهذا الفكر أو تلك "الترهات والبدع والخرافات"؟! وكم من مفكر مسيحي أو يهودي بين المستشرقين يشيد المسلمون بإنصافه وحرصه على موضوعيته في دراسة الإسلام، وعدم خلطه بين عقيدته وبين الموضوع الذي يبحث فيه.

ولا شك أن بين الكويتيين من يعتنق البهائية سراً أو علناً، وله بالطبع حق الدفاع القانوني عن حرية عقيدته المكفولة دستورياً، وإن كانت قضية اعتراف قوانين الدول العربية بالديانة البهائية غير واضحة.

والحقيقة أن ثمة مشكلة معروفة في الثقافة العربية تتعلق بحرية الدراسة والبحث والنشر في مجال الأديان، وتشمل الحواجز الدين الإسلامي نفسه، وكذلك الأديان والمذاهب الأخرى، وهناك موانع وحواجز وقوانين لا حصر لها في كل الجامعات العربية، وفي وزارات الإعلام والثقافة والأوقاف. وتشمل هذه القوانين غير المعلنة فيما يبدو عدم السماح للأساتذة غير المسلمين بالعمل في مجال الأديان والتاريخ، وربما عموم الثقافة، ولهذا لا نرى في جامعاتنا من يشرح المسيحية أو اليهودية أو أي دين بموضوعية!

وتقف المكتبات الجامعية والمكتبات التجارية في معظم دول أوروبا وأميركا والغرب موقفا محايداً من الأديان، ومن هذه الأديان الإسلام والبوذية والبهائية وغيرها، ونرى على أرفف هذه المكتبات الأكاديمية وكذلك التجارية باستمرار كتباً قديمة وجديدة عن الإسلام والأديان الأخرى، ومؤلفات تدافع بحماس عن الإسلام، وعن مذاهب الشيعة والسنّة، وكتباً يجاهر على أغلفتها وصفحاتها أوروبيون وأميركيون ممن أسلموا أو آمنوا بأديان أخرى. ونرى كذلك في هذه المكتبات الداعية الهندي "ديدات" ضد المسيحية، ومؤلفات تحمل ردود المسلمين على من ينتقد دينهم... وهكذا.

ولا نجد بالطبع شيئاً من هذه الحرية الفكرية والحياد، في جامعات ومكتبات البلدان العربية والإسلامية، ومنها بالطبع مكتبات وجامعات الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فمن الصعب أن تقع مثلاً في أي مكتبة تجارية على كتب تدافع عن المسيحية والبهائية بقلم من يؤمن بها.

back to top