انحدار الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي

نشر في 17-07-2018
آخر تحديث 17-07-2018 | 00:07
من المرجح بشدة أن تشهد بريطانيا كارثة بسبب زيادة وعي عامة الناس بما يلوح في الأفق من تكلفة اقتصادية واجتماعية باهظة في حالة الخروج من الاتحاد الأوروبي بدون صفقة.
 بروجيكت سنديكيت في البداية كانت لدى رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي خطة هي أن "خروج بريطانيا يعني خروج بريطانيا"، فقد كانت الفكرة تتمثل بانسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي بسرعة كبيرة بحيث لا يشعر المصوتون بأنهم قد تعرضوا للخداع في أثناء حملة الاستفتاء على عضوية الاتحاد الأوروبي، ومن ثم لا يعاقبون الحزب المحافظ لكذبه عليهم.

كانت الخطة هي التظاهر بأنه أيا كانت الصفقة التي يجري التفاوض بشأنها مع الاتحاد الأوروبي، فإنها ستكون خروجا "بشروط خاصة" أو ستكون "أفضل خروج ممكن"، بما يسمح لبريطانيا بمغادرة التكتل مع الاحتفاظ بإمكانية الدخول إلى السوق الأوروبية دون قيود. ومن وجهة نظر حزبية سياسية بحتة، كانت الخطة تبدو منطقية حتى الانتخابات المبكرة في يونيو الماضي، حينما فقدت ماي أغلبيتها البرلمانية.

ومن المؤكد أن ماي أحرزت انتصارا في الآونة الأخيرة حينما واجهت بثقة أعضاء حزب المحافظين المعارضين للخروج من الاتحاد الأوروبي في مجلس العموم، ولكن لا يكاد يكون لذلك أي أهمية، فمنذ يونيو الماضي، كانت الحياة السياسية البريطانية تدور حول المعضلة نفسها: كيف يمكن تجنب التدمير المفاجئ لكثير من الصناعات البريطانية التي تعتمد على سلاسل التوريد الأوروبية عند الحاجة دون أن تقبل أيضا "نموذج النرويج" التي تنصاع لقواعد الاتحاد الأوروبي دون أن تكون لها أي كلمة في صياغة تلك القواعد.

ومن أجل مساعدة حكومة ماي على تجنب وقوع كارثة للصناعات البريطانية، تفضلت المفوضية الأوروبية بالموافقة على منح "فترة تنفيذ" قدرها 21 شهرا تلي الخروج الرسمي للمملكة المتحدة في 29 مارس 2019، وكانت الفكرة تتمثل بأن هذه الفترة ينبغي استخدامها لتسوية معظم تفاصيل العلاقة المستقبلية، إلا أن ماي أضاعت الفرصة بالفعل بمواصلة الإصرار على ما يسمى الخطوط الحمراء، التي تشمل رفض اختصاص محكمة العدل الأوروبية.

ورغم أن ماي تحاول مضاعفة فوائد التجارة غير الاحتكاكية داخل السوق الأوروبية الواحدة، فإن خطوطها الحمراء تجعل قبول المفوضية الأوروبية أمرا مستحيلا. ونتيجة لذلك لم تحرز مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي أي تقدم، وأصبح التوصل إلى اتفاق نهائي في الوقت المناسب بشأن "يوم الخروج البريطاني" أمرا أشبه بالمستحيل. أضِفْ إلى ذلك أنه حتى مع تأجيل "فترة التنفيذ" "للخروج الاقتصادي" حتى 2021، لا يوجد وقت كافٍ لإعادة هيكلة الصناعة البريطانية لتتمكن من البقاء بعد إدخال الضوابط الحدودية المعتادة التي يجري العمل بها خارج الاتحاد الأوروبي.

ومن منطلق تنبئهم بوقوع كارثة، اقترح مناصرو البقاء في الاتحاد الأوروبي في حكومة ماي "نموذج جيرسي"، الذي بموجبه تظل الصناعة البريطانية وحدها داخل الاتحاد الجمركي للاتحاد الأوروبي وفي السوق الواحدة وفي المنطقة المشتركة لضريبة القيمة المضافة، في حين تتقلص حرية حركة العمالة والخدمات. لكن ليس لهذا الاقتراح أمل في النجاح بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي الذي يصر على عدم إمكانية الفصل بين "الحريات الأربع" (حرية حركة البضائع، ورأس المال، والخدمات، والعمالة).

كما أنه لا يمكن حل المسألة الشائكة المتعلقة بالحدود الأيرلندية في إطار الخطوط الحمراء التي وضعتها ماي، ففي ديسمبر، وافقت ماي على عدم وضع أي حدود مادية أو اقتصادية بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا، التي ستظل دولة عضوا في الاتحاد الأوروبي. لكنها وافقت أيضا للبروتستانتيين من سكان ألستر على عدم وضع حدود بين أيرلندا الشمالية والبرّ الرئيس لبريطانيا، ولا يمكن التوفيق بين هذين الوعدين، نظرا لأنه سيلزم وجود حدود مشددة على القنال الإنكليزي. والسبيل الوحيد إذاً أمام ماي هو أن تتجنب وجود حدود مشددة مع أوروبا القارية بقبول الحريات الأربع (التي تتطلب أيضا قبول اختصاص محكمة العدل الأوروبية).

وسواء أدركت المفوضية الأوروبية أو حكومة ماي ذلك أم لا، فإن التعارض بين هدفيهما تعارض تام، فالبريطانيون يريدون أن يتخلى الاتحاد الأوروبي عن المبادئ التي تأسس عليها في مقابل 40 مليار يورو (46 مليار دولار) وعدم وجود حدود مشددة مع أيرلندا، ولكن نظرا لأن المملكة المتحدة قد ألزمت نفسها بتلك الامتيازات، فليس لدى الاتحاد الأوروبي أي سبب ليستمع إلى التماسها الخاص، ولو نقضت حكومة ماي التعهدات التي قطعتها في ديسمبر فستواجه "خروجا من الاتحاد الأوروبي بدون صفقة"، وستخرج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وسيصيب الدمار كثيرا من قطاعات الاقتصاد البريطاني.

ولا تزال توجد ثلاث نتائج محتملة، منها نتيجتان بسيطتان ونتيجة واحدة معقدة، فيتمثل السيناريو الأول في أن تتنازل بريطانيا عن "خطوطها الحمراء" وأن تتبنى "نموذجا مماثلا لنموذج النرويج"، وفي تلك الحالة، لن تظل فقط داخل السوق الواحدة لكنها ستظل أيضا داخل الاتحاد الجمركي، أما في السيناريو الثاني، فستقبل المملكة المتحدة حدودا اقتصادية في البحر الأيرلندي وتحتفظ بخطوطها الحمراء للبرّ الرئيس لبريطانيا، وذلك بإبرام اتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي، ومن المفارقات أنه يمكن لكل من المفوضية الأوروبية والمتعصبين من مؤيدي الخروج أن يتفقا على هذه النتيجة بالنسبة للبرّ الرئيس لبريطانيا، ويُستثنى من ذلك أن مؤيدي الخروج المتعصبين يرفضون قبول وجود حدود بين البرّ الرئيس لبريطانيا وأيرلندا الشمالية.

وتكمن المشكلة الكبرى في أن ماي لن توافق على أي من هذين الحلين "البسيطين" قبل الموعد النهائي الذي سيحل في الخريف، كما أن النتيجة الثانية ستؤدي إلى وقوع كارثة للصناعة البريطانية، إلا إذا تم مد الفترة الانتقالية لعدة أعوام من أجل منح الكيانات التجارية مهلة لإعادة هيكلة عملياتها.

المخرج الوحيد إذاً هو من خلال كارثة سياسية، وقد تحدث تلك الكارثة داخل أوروبا نتيجة لصراعات بين الدول الأعضاء الكبرى أو لمحاولات الرئيس الأميركي دونالد ترامب تقويض الاتحاد الأوروبي، لكن تلك الكارثة الأوروبية لن تأتي في موعد مناسب بالنسبة إلى ماي ليضمن للمملكة المتحدة ككل "نموذجا على غرار نموذج جيرسي". فمن المرجح بشدة أن تشهد بريطانيا نفسها قبل ذلك الحين كارثة بسبب زيادة وعي عامة الناس بما يلوح في الأفق من تكلفة اقتصادية واجتماعية باهظة في حالة الخروج من الاتحاد الأوروبي بدون صفقة.

وإذا اندلعت تلك الأزمة وبدأت الخطوط الحمراء لبريطانيا بالتبدد، يمكن أن يلي ذلك أي عدد من النتائج المحتملة. حيث يمكن مد الفترة الانتقالية إلى 2025 مثلا ليتبعها إبرام اتفاقية تجارة حرة ووضع حدود اقتصادية في البحر الأيرلندي، أو يمكن تأجيل خروج بريطانيا نفسه لعدد من السنوات، ويكون في هذه الحالة الوصول إلى نموذج "مماثل لنموذج النرويج" هو الهدف النهائي. ومن جهة أخرى، قد يؤدي أي من هذين السيناريوهين إلى إجراء استفتاء ثانٍ وإلغاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بالكلية، ومن الواضح، على أي حال، أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفقا لرؤية الجانب البريطاني له حاليا، أمر مستحيل. وإذا حدث، فلن يشبه أي شيء عرضته ماي حتى الآن.

* وزير المالية البولندي ونائب رئيس الوزراء في الفترة من 2007 إلى 2013.

«بروجيكت سينديكيت، 2018» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top