بوتين ليس المتهم الوحيد

نشر في 15-07-2018
آخر تحديث 15-07-2018 | 00:07
تغيرت طبيعة التسليح بموازاة ترسخ حالة "الحرب الهجينة"، ومع أن البندقية والطائرة والصاروخ والعبوة الناسفة تظل أدوات مهمة في تلك الحرب، فإن أدوات جديدة تنضم إلى قوائم التسلح؛ وبينها أجهزة كمبيوتر، وأمصال، و"بوستات" على وسائط التواصل الاجتماعي، ولجان لصنع الشائعات وترويجها.
 ياسر عبد العزيز إذا كنت من هؤلاء الذين يتابعون وسائل الإعلام الغربية بانتظام، فلعلك لاحظت أن حدة الهجوم على الزعيم الروسي بوتين تتزايد باطراد.

لا يقتصر الأمر على، في هذا الصدد، الصحف والفضائيات فقط، لكنه يمتد ليشمل أيضاً مراكز البحوث ومستودعات التفكير البارزة، فضلاً عن المنظمات الغربية الرئيسة؛ مثل "الناتو"، والاتحاد الأوروبي، وغيرهما.

من بين الانتقادات الشائعة التي توجه للزعيم الروسي الاتهام بأنه "دكتاتور"، و"معاد للغرب"، لكن أحد أهم هذه الاتهامات، وأكثرها بروزاً في الفترة الأخيرة، يتعلق بوصف بوتين بأنه "سيد الحرب الهجينة"؛ أو أكثر الزعماء تمكناً من آلياتها واستخداماً لها.

فما "الحرب الهجينة"؟

بات مصطلح "الحرب الهجينة" Hybrid warfare حقيقة ساطعة، وقاسماً مشتركاً، في الجهود البحثية التي تجريها معاهد دراسة الحرب والأمن القومي من جهة، وأحاديث الساسة وقادة الجيوش والمنظمات الدفاعية الدولية من جهة أخرى.

ووفق تلك الجهود، فـ"الحرب الهجينة" هي أحدث أجيال الحرب وأكثرها تعبيراً عن حالات النزال الراهنة، ويمكن تعريفها ببساطة بأنها "استراتيجية عسكرية تجمع بين الحرب التقليدية، والحرب غير النظامية، والحرب السيبرانية"، وهي أيضاً "الهجمات التي تستخدم فيها أسلحة الدمار الشامل، والأسلحة التقليدية، وحرب المعلومات"، أو هي "توليفة من أنواع مختلفة من التهديدات، تتضمن استخدام الوسائل التقليدية والتخريبية والسيبرانية".

سيكون بمقدورنا أن نُعرّف معظم الحروب التي جرت قبل الحرب العالمية الأولى بأنها "حروب تقليدية"؛ إذ ينتظم الجيشان المتقاتلان في جبهتين متقابلتين، تم تحديدهما سلفاً، ويستخدم كلاهما أنواعاً متقاربة من الأسلحة، ويتم حسم المعركة من خلال القدرة على إيقاع أكبر قدر من الخسائر في القوة المعادية، بما يجبرها على تقديم تنازل، أو يحملها على الاستسلام.

لكن الحروب أخذت تتلون لاحقاً، وتتخذ أشكالاً مختلفة؛ وهو الأمر الذي واكبه التنظير الخاص بتقسيم الحروب وتمييزها إلى أجيال، وصولاً إلى أحد أحدث هذه الأجيال، والذي وُصف بأنه جيل "الحرب اللا متماثلة" Asymmetric warfare.

نشأ مصطلح "الحرب اللامتماثلة" لمقابلة حالة الحرب التي ينخرط فيها جيش نظامي في مواجهة "عصابة" أو جماعة مسلحة غير نظامية؛ وهو أمر تكرر كثيراً مع بروز التهديد الإرهابي في مناطق مختلفة من العالم.

لكن مصطلح "الحرب اللامتماثلة" لم يعد قادراً على تفسير وشرح حروب جديدة اندلعت في أكثر من بقعة؛ وهي حروب شهدت انخراط قوات نظامية ولا نظامية، وتوظيف أدوات جديدة، لم يكن بالوسع توظيفها في الحروب السابقة، والأهم من ذلك أن جبهة تلك الحروب اتسعت لتشمل الفضاء الإلكتروني إلى جانب الفضاء الكوني.

مع بروز مصطلح "الحرب الهجينة" ومعاينة أثره في واقع الحروب، لم يعد مفهوم الحرب مقتصراً على العمليات الحربية في جبهات القتال؛ إذ اختفت الحدود الفاصلة بين حالة الحرب واللاحرب، وبين المقاتل والمدني، وبين الأدوات والوسائل الاجتماعية وآليات القتال.

لقد تغيرت طبيعة التسليح بموازاة ترسخ حالة "الحرب الهجينة"، وفي حين تظل البندقية والطائرة والصاروخ والعبوة الناسفة أدوات مهمة في تلك الحرب، فإن أدوات جديدة تنضم إلى قوائم التسلح؛ وبينها أجهزة كمبيوتر، وأمصال، و"بوستات" على وسائط التواصل الاجتماعي، ولجان لصنع الشائعات وترويجها.

وبموازاة ذلك تغيرت طبيعة المحارب الفرد والقوة المحاربة؛ فلم يعد المقاتل ذلك الجندي النظامي، أو رجل "الميليشيا" المدرب على أعمال القتال البدنية والذهنية فقط، ولكنه بات أيضاً طبيباً، أو مهندس تقنية معلومات، أو عالماً في مختبر، أو مدونا على "الإنترنت".

وفي غضون ذلك، فإن جبهة القتال اتسعت، بحيث يمكن تعريف حدودها بألا حدود لها، كما تغيرت طبيعة الفئات المستهدفة بالقتال، لتشمل الأسر في البيوت، وطلاب المدارس، وجمهور الفرق الرياضية، والعقل الجمعي للأمة المستهدفة، والذاكرة الوطنية، والحالة المعنوية، وماء الشرب، والأكسجين في الهواء، والمعاملات المصرفية، والعملة المستخدمة، ومخزون الحنطة، والوقود، وغيره من السلع الحيوية.

تجتهد معاهد البحوث ومنتديات السياسة الغربية في إلصاق مصطلح "الحرب الهجينة" بروسيا، ويسود انطباع قوي لدى هذه المنتديات بأن الرئيس الروسي "مرجع أساسي" في هذا المضمار.

يُنظر إلى ما فعله بوتين إزاء القرم وأوكرانيا، وفي تحليل آخر، إزاء سورية، بوصفه تطبيقاً عملياً بارعاً لمفهوم "الحرب الهجينة"، وهو أمر يندرج ضمن "تكنيكات" التدافع السياسي، التي يستخدمها الغرب لإلحاق الضرر بصورة المنافس الروسي.

ومع ذلك، فإنه لا يمكن استبعاد أن بوتين يستخدم "تكنيكات الحرب الهجينة" بالفعل، لكن هذا الإقرار يجب ألا ينسينا أن تلك "التكنيكات" تُمارس من قوى عديدة في العالم.

يعطينا "داعش" مثلاً ملهماً في إطار استخدام تلك "التكنيكات"، وتظل عملية احتلال الموصل في يونيو من العام 2014 شاهداً على مثل هذا الإنجاز؛ إذ تم استخدام آليات الحرب التقليدية كلها، بموازاة الحرب النفسية، والحرب السيبرانية، وتدمير الموارد، والروح المعنوية للعدو، حتى قيل إن "داعش" احتل الموصل بـ"التغريدات".

يخوض "داعش"، ومعه جماعات إرهابية أخرى، حرباً "هجينة" في ليبيا في مواجهة الجيش الوطني الليبي، وما زالت بقايا هذا التنظيم تحاول استعادة المناطق التي سلبت منه في العراق وسورية، بموازاة الحرب الدائرة في اليمن ضد الشرعية والتحالف الإسلامي.

تتوافر مقومات الحرب "الهجينة" في الممارسات الإيرانية ضد العالم العربي، وخصوصاً في اليمن ولبنان وسورية.

الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو 2006 كانت حرباً هجينة؛ لأنها شملت مزيجاً من أدوات الحرب التقليدية، والحرب اللامتماثلة، والحروب المعنوية والنفسية، واستخدمت طيفاً عريضاً من الموارد والآليات.

ومواجهة "حزب الله"، ومن ورائه إيران، لإسرائيل في هذه الحرب تمت بأساليب "الحرب الهجينة" أيضاً؛ وهو الأمر ذاته الذي نفذته الولايات المتحدة في حروبها الأخيرة في أفغانستان والعراق ويوغسلافيا، وقبلها الصومال. تُستخدم الأسلحة التقليدية في الحروب الإيرانية على المنطقة، بموازاة القصف الإعلامي، والتهديد السيبراني الذي ظهرت بوادره واضحة ضد المملكة العربية السعودية.

وتقوم الميليشيات التابعة لإيران (حزب الله اللبناني، والحوثيون) بتنفيذ التكليفات اللامتماثلة، في إطار الهجمات "الهجينة".

"الحرب الهجينة" ليست لعبة بوتين وحده، ولكنها سمة الحرب المعاصرة.

* كاتب مصري

back to top