الهجرة الذكية لأوروبا

نشر في 10-07-2018
آخر تحديث 10-07-2018 | 00:08
كانت قضية الهجرة تشكل عائقا أمام الاتحاد الأوروبي، وذلك بسبب إثارة المخاوف والتلاعب العاطفي الذي أعاق النقاش البناء، وللحد من هذه الأزمة يجب إنشاء عقد اجتماعي للمهاجرين الاقتصاديين على المستوى الوطني ومستوى الاتحاد الأوروبي.
 بروجيكت سنديكيت تحظى العناوين الرئيسة المتعلقة بالهجرة في أوروبا باهتمام الكثيرين، سواء كانت قصة مهاجر مالي غير قانوني يتسلق مبنى في باريس لإنقاذ طفل صغير أو خبر عن تشكيل حكومة شعبوية في إيطاليا تهدف إلى ترحيل نصف مليون مهاجر، ومع ذلك، وعلى الرغم من التغطية المستمرة لقضية الهجرة- أو على الأرجح بسببها- فإن النقاش حول سياسة الهجرة يظل محاطا بالمفاهيم الخاطئة والتسييس.

في المملكة المتحدة، كان التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مدفوعا جزئياً بمزاعم كاذبة ومغلوطة، كانت تلك الهجرة غير المقيدة من بقية أوروبا تؤدي إلى انخفاض الأجور، فمنذ التصويت واجهت الحملة المناهضة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تشوهات مماثلة، مع التحذير من أن المملكة المتحدة ستواجه نقصاً في المهارات بمجرد تركها الاتحاد الأوروبي، لكن الكثير من الدول- مثل أستراليا وكندا وسنغافورة- تعمل بشكل جيد دون وجود اتفاقات تضمن حرية الحركة من الدول الأخرى، وذلك من خلال إصدار تأشيرات مطابقة للمهارات.

وقد أدت مثل هذه الاختلالات، من قبل القوى المؤيدة والمناهضة للهجرة في جميع أنحاء أوروبا، إلى فض النقاش المتواصل حول هذا الموضوع، وحتى عند قيام الأطراف بتحليل معقول لتكلفة الأثر الاقتصادي للهجرة، فإنها تميل فقط إلى الاستشهاد بالدراسات والبيانات التي تدعم وجهة نظرها الخاصة. هذا يحول دون الاتفاق على حلول مبتكرة وفعالة.

وبالنظر إلى السنوات التي قضيتُها في دراسة الهجرة الدولية للعمال ذوي المهارات العالية، ناهيك عن تجربتي كمهاجر، يجب أن يبدأ النقاش المنطقي والمتوازن حول الهجرة من وجهة نظر المهاجرين أنفسهم. ما الذي يدفع الشخص للانتقال إلى بلد جديد وغير معروف عادة؟

من خلال الإجابة عن هذا السؤال، يتضح أن الهجرة هي ظاهرة متنوعة للغاية، اعتمادا على تأثيرها في مجموعة متنوعة من العوامل مثل الجنسية ومستوى المهارة والمدة المقصودة في الخارج والدوافع. تختلف خبرة طبيب اختصاصي ينتقل بشكل دائم من الهند إلى المملكة المتحدة عن خبرة عامل بناء من رومانيا يسعى وراء الحصول على راتب أفضل في فرنسا. بدءا من سهولة الرحلة إلى الظروف المعيشية التي يمرون بها، تختلف تجارب كليهما كثيراً عن تجارب لاجئ سوري يأمل العيش في ألمانيا في انتظار نهاية الحرب الأهلية في بلده.

ما تشترك فيه هذه التجارب هو أنها مدفوعة بشكل عام بالرغبة في رفع مستوى معيشة المرء، سواء من خلال وضع أكثر أهمية، أو راتب أعلى، أو زيادة السلامة الجسدية. باختصار، يريد المهاجرون حياة أفضل، وليس ثقافة أو هوية جديدة.

إن المهاجرين الاقتصاديين، على وجه الخصوص، هم ببساطة باحثون عن عمل من بلدان أخرى. إذا تم إيجاد عمل مماثل في بلدانهم، فقد لا يهاجرون على الإطلاق، وبهذا المعنى يتمحور تحدي الهجرة الاقتصادية نحو خلق فرص عمل.

ونظرا إلى ذلك، ينبغي إعطاء المهاجرين الاقتصاديين الوظائف التي يحتاجونها، من خلال وكالات الوساطة في العمل لفائدة البلدان الرئيسة المرسلة للمهاجرين، ويمكن أيضا خلق برنامج مستوحى من برنامج التبادل بين دول الاتحاد الأوروبي وتركيا، والذي يمكن من خلاله تحديد عدد تأشيرات العمل المتناوب عنها المتاحة لبلد ما حسب عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين يبحثون عن عمل في هذا البلد.

وبطبيعة الحال يجب أن تتم حماية حقوق المهاجرين كعمال أجانب عند وصولهم إلى البلد المضيف، لكنهم لا يحتاجون إلى منح حق الوصول الكامل إلى الحقوق السياسية والمزايا الاجتماعية لمواطني مجتمعهم المضيف.

هذا هو النظام المعمول به في الإمارات العربية المتحدة، حيث يشتغل الملايين من العمال الأجانب طوعاً، فهم يعرفون أنهم سيتمتعون بحماية العمل وحقوق الإنسان، مع إمكانية ملاحقة الإساءات قضائيا بموجب القانون، ولكن دون امتيازات إضافية. يتيح هذا النظام لدولة الإمارات العربية المتحدة منح ما يقرب من ثمانية ملايين شخص فرصة عمل لرفع مستويات معيشتهم، مع تجنب رد فعل عنيف من السكان الأصليين.

وقد يحقق الحل المبتكر الآخر نجاحا في بعض المناطق، والذي يكمن في مخطط «تصريح G» السويسري، وهو متاح للأجانب الذين يعيشون في منطقة حدودية في بلدهم الأصلي ويعملون في منطقة حدودية في سويسرا. (تم إنشاء المناطق الحدودية بموجب معاهدة). يجب على جميع المسافرين العابرين للحدود العودة إلى وطنهم مرة واحدة على الأقل في الأسبوع. هل يستطيع الاتحاد الأوروبي إنشاء «منطقة حدودية» خاصة به تسمح بنظام التنقل المرن للعمال غير الدائمين من إفريقيا والشرق الأدنى؟

إن حرمان المهاجرين من الامتيازات المرتبطة بالعيش في البلد المضيف قد يبدو متناقضاً مع القيم الليبرالية الأوروبية التقليدية وقيم المساواة. كوني شخصا ليبراليا، أتشارك هذه القيم، يجعلني أدرك أن اعتبارها مسألة سياسية يؤدي في نهاية المطاف إلى تقويض مصالح المهاجرين، ومع تنامي نفوذ القوى السياسية المعادية للمهاجرين في جميع أنحاء أوروبا، على المرء أن يسأل ما إذا كان القادمون الجدد الذين يسعون إلى الحصول على وظيفة سيتم قبولهم على أساس مشروط (على الأرجح لفترة محدودة)، أو لن يتم قبولهم على الإطلاق.

تثير الهجرة المتحيزة للمهارات معضلة مماثلة، ويعتقد الكثيرون في أوروبا أن هذا النهج لا يميز فقط ضد أضعف مجموعات المهاجرين، بل يؤدي أيضا إلى هجرة الأدمغة من البلدان التي تحتاج إلى عمال ذوي مهارات عالية.

ولكن، مرة أخرى، يجب على المرء التأكد من المفاضلة، قد يتمكن المهاجرون الماهرون من الاندماج في المجتمع المضيف بكل سهولة، حيث يمكنهم إحداث قيمة مضافة، وهذا يتيح بناء الجسور الثقافية بين المجتمعات المضيفة والبلدان الأصلية، والأهم من ذلك، يمكن لهؤلاء المهاجرين أن يبعثوا المزيد من الأموال إلى بلدانهم من خلال حوالات مالية أكثر مما كان بإمكانهم المساهمة في الضرائب لو بقوا هناك.

لطالما كانت قضية الهجرة تشكل عائقا أمام الاتحاد الأوروبي، وذلك بسبب إثارة المخاوف والتلاعب العاطفي الذي أعاق النقاش البناء، وللحد من هذه الأزمة يجب إنشاء عقد اجتماعي للمهاجرين الاقتصاديين على المستوى الوطني ومستوى الاتحاد الأوروبي. ومن شأن «عقد حقوق العمال الأجانب» مماثل أن يحمي حقوق المهاجرين ويقيد امتيازاتهم الاجتماعية.

حين لا تعود الهجرة تهيمن على جدول الأعمال السياسي، قد يتمكن الاتحاد الأوروبي في النهاية من مواجهة التحديات الكبيرة التي يواجهها، وذلك من خلال نهج تعاوني وإبداعي مماثل.

* سامي محروم

* مدير مبادرة الابتكار والسياسة في إنسياد، وعضو في المجموعة الاستراتيجية الإقليمية التابعة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وزميل غير مقيم في مجلس لشبونة، ومؤلف كتاب «البجعة السوداء الناشئة: فهم نهوض تكنولوجيا الأعمال الناجحة في أماكن غير محتملة».

«بروجيكت سنديكيت 2018» بالاتفاق مع «الجريدة»

يجب أن يبدأ النقاش المنطقي والمتوازن حول الهجرة من وجهة نظر المهاجرين أنفسهم

ما تشترك فيه تجارب الهجرة هو أنها مدفوعة بشكل عام بالرغبة في رفع مستوى معيشة المرء
back to top