في غيبة اليسار العربي

نشر في 07-07-2018
آخر تحديث 07-07-2018 | 00:07
 د. محمد بن عصّام السبيعي من يتأمل تاريخ العالم العربي على مر العقدين المنصرمين فسيؤخذ بالعجب بعد العجب، من ذلك التواري المطرد لليسار العربي، لاسيما في المشرق، فبعد هيمنة واسعة على الساحة السياسية، نشرت خطاباً أيديولوجياً مجلجلاً وبلغت حد القبض على مقاليد السلطة، نجد ضموراً متسارعاً حتى مرحلة من تلاشٍ شبه تام.

ففي خضم ما مر على المنطقة من تحولات كبرى ومظاهر مفجعة لاندلاع موجات من عنف، كان لمنظمات دينية متطرفة، طالما مثلت غريما لليسار، الدور الأبرز فيها، يحق للمراقب التساؤل عن سر غياب اليسار العربي: أين انكفأت تلك التشكيلات على تنوع مسمياتها وتشابه محتواها، وتباين مظهرها وتماثل مخبرها؟ أين ولت تلك التي كانت تصول وتجول في كل ساحة وميدان، تتعاطى السياسة بكل أداة، من ورقة التصويت في انتخابات طلبة كلية حتى الابتزاز الفعال لدول قائمة بغية نيل مطالبها، لا تتورع في ذلك عن الخطف أو القتل؟ من يشغل الذهن بذلك فلابد أن يهتدي إلى ثمة فرضيات تنير شيئا مما حل باليسار العربي.

مؤدى أولاها أن اليسار في ديار العرب كما بذرة في غير موضعها، فالفكر اليساري على اختلاف تجلياته من اشتراكية وليبرالية وغيرهما هو بحق نبت غربي استقى تقاليده الأولى من الصوت المعارض منذ الإرهاصات الأولى للديمقراطية الغربية، وما فتئ يستمد قوته من موجة التصنيع التي عمت تلك الأنحاء، وأتت على كل مثال للمؤسسات المحافظة، إن لم يكن تمزيقا فتطويعا، ولينهض منذ ذلك الحين على أكتاف بروليتاريا تركزت في المدن الأوروبية، قوى عاملة لا تحمل على عاتقها إلا القليل من ارتباطات دينية أو عرقية، بل ما يكفل تأمين مصالحها في أجر عادل وظروف عمل كريمة وشغف بالحرية المطلقة. بيد أن كل ذلك لم يصادف هنا وجودا مماثلا، فلا عبر المشرق العربي بتلك التحولات الصناعية الكبرى، كما لم يكتب لمجاميع جماهيرية متجاوزة لولاءات العرق أو الدين أن توجد. وهذه إن كتب لها بعض وجود فدون التزام يساري حق، فالمجتمع العربي بخصلته المحافظة، حتى في المدن، ليس بالحاضنة المثالية لمثل ذلك الفكر بقيمه التقدمية الخارجة بجرأة عن المعتاد، بل النافية جدلا لكل تقليد حي.

كل ذلك، ومنه ما رسم مصير اليسار، يكشف بلا لبسٍ أن اليسار في أرض العرب كان نبتا سطحيا مسلوب القدرة على ضرب جذوره عميقا، لذا تنصرف الفرضية الثانية إلى أن الخطاب اليساري مكث في أرض العرب رهينة في يد أقلية، لعلها تلك النخبة المثقفة، وربما الميسورة، المفتونة بكل بضاعة فكرية غريبة، والتي لم تر من سبل تنمية مجتمعاتها سوى أهونها، ذلك رفض الموروث واستيراد الغريب. كما لم تقبل على أي من قيم اليسار مثل ما فتنت بالحرية، تلك القمينة بإعتاقها من الضوابط المثبطة لمحيطها المحافظ ونواهيه الدينية. مثل هذا الاختلال بين رسالة شعبية لليسار والعدد النخبوي المحدود لحملتها في المشرق العربي قاد بدوره إلى مزيد من اختلالات وسمت صورة اليسار ونشاطه في عقود مضت، ففضلا عن القطيعة بين الفكر اليساري وسواد الشعوب العربية نتيجة زهو المثقف بما لديه، فقد اندفع هذا في طريق من تبريرات لمسالك انتهازية بل لتلفيق بلغ حد أن يظهر اليسار قصرا على أحزاب أو حيازة لأفراد أو أسر، ويجري توظيفه بحسب مجرى المصالح والمطامع.

ولعل ذروة التلفيق تمظهرت، وهي الثالثة، في تأييد يصل درجة تحالف أعمى مع نظم سياسية، إقليمية وعالمية، ترفع لواء اليسار، صدقا أو زورا، حيث قايضت تلك النخب وظيفتها في التبرير الأيديولوجي والتسويغ لأفاعيل لتلك النظم منافية قيم اليسار، مقابل تأمين مصالحها والاستحواذ على ما تحت أيدي تلك النظم من مخزون قوة وموارد سياسية. فبمقتضى ذلك انخرطت نخب اليسار في علاقات معقدة يصعب انحلالها مع نظم استبداد متبدلة إن لم تكن هشة، تقلب مصالحها تقليبا يثير الدهشة. فالرهان على النظم الشيوعية في السابق كان رومانسيا إلى حد كبير، ورغم تساقط تلك النظم تباعا إثر ثورات شعبية، فلا يبدو أن كان في الأمر ما يكفي من العبر لليسار العربي، فلقد بقي هذا على إخلاصه لنظم إقليمية ترفع راية اليسار، إلا أنها في الحقيقة بعيدة عن اليسار وعن كل قيمه المعلنة في العدالة والرفاهية والتغيير، وذلك حتى حان، بعد نحو عشرين عاما من انهيار العالم الشيوعي، مصير مماثل لنظم إقليمية مماثلة. وما نجا من هذه فقد لقي من الزعزعة ما يكفي لأن يبدل ارتباطاته ويوجه مصالحه وجهة أخرى، ولا يستبعد أن تكون هذه الخطوة بمثابة رصاصة رحمة تطلق على وجود يثير الجدل لليسار العربي.

back to top