بعد الموت... ماذا يحدث للجسم؟

نشر في 03-07-2018
آخر تحديث 03-07-2018 | 00:00
No Image Caption
عندما يموت الإنسان، قد تكون هذه نهاية رحلته في هذا العالم. لكن الوضع مختلف بالنسبة إلى جسمه، الذي يبدأ بدلاً من ذلك مسيرة طويلة لتفكيك مكوناته. إذاً، ماذا يحدث عندما يتفكك الجسم؟ ولمَ علينا معرفة ذلك؟
بالنسبة إلى معظمنا، يبدأ احتكاكنا بجسم مَن ماتوا وينتهي خلال مراسم الدفن المحزنة. حتى في تلك المناسبة، لا نحصل إلا على جثة ملفوفة بكفن أو ممددة في تابوت أنيق بعدما يكون المشرفون على عملية الدفن قد حضروها بدقة، أو إناء مملوء ببقايا جسم الميت بعد حرقه. ولكن ماذا يحدث للجسم طبيعياً بعدما يكون حظي بلقائه الكبير مع الموت؟ وماذا إذا لم يقرر الإنسان حرق جسمه واختار التحنيط كي يبطئ عملية التحلل ويبقي جسمه «بحالة جيدة» مدة أطول؟

في الأحوال الطبيعية (إذا تُرك الجسم، مثلاً، في البيئة الطبيعية أو وُضع في قبر قليل العمق)، يبدأ الجسم الهامد بالتفكك تدريجياً. ولا يتبقى منه سوى العظم، الذي قد ينبشه علماء الآثار في المستقبل.

في هذا المقال، نصف عملية التفكك هذه ونوضح لمَ من المفيد أن نفهم ما يحدث للجسم بعد الموت.

عملية التفكك

صحيح أن كثيرين منا يعتقدون أن التفكك مرادف للتعفن، إلا أنه ليس كذلك. تفكك جسم الإنسان عملية أطول تمر بمراحل عدة يشكّل التعفن إحداها فحسب.

التفكك ظاهرة تنفصل خلالها تدريجياً المركبات العضوية المعقدة التي كانت تؤلف كائناً كان حياً سابقاً إلى عناصر أبسط. تشكّل هذه «عملية متواصلة تبدأ عند نقطة الموت وتنتهي عندما يتحوّل الجسم إلى هيكل عظمي»، حسبما يوضح عالم الطب الجنائي م. لي غوف.

ثمة إشارات عدة إلى أن الجسم بدأ عملية التفكك، وفق غوف. ولعل أبرز ثلاث إشارات بينها، التي تُذكر غالباً في مسلسلات الجرائم، ازرقاق الجثة، والتخشب الموتي، وبرودة الموت.

ازرقاق وتخشب وبرودة

يشير ازرقاق الجثة أو الزرقة التالية للموت إلى النقطة التي يصبح فيها جسم الشخص الميت باهتاً جداً أو شاحباً بعيد الوفاة. ويعود ذلك إلى خسارة الدورة الدموية مع توقف القلب عن النبض.

يذكر غوف: «يبدأ الدم بالاستقرار، بفعل الجاذبية، في الأجزاء السفلية من الجسم»، ما يؤدي إلى شحوب البشرة. قد تبدأ هذه العملية بعد نحو ساعة من الموت وتستمر من تسع إلى 12 ساعة بعد الوفاة.

مع التخشب الموتي، يصبح الجسم متيبساً ولا يمكن طيه مطلقاً، بما أن كل العضلات تشتد بفعل التبدلات التي تطرأ عليها عند المستوى الخلوي. يبدأ التخشب الموتي في الساعتين إلى الساعات الست بعد الموت وقد يدوم من 24 إلى 84 ساعة. بعد ذلك، ترتخي العضلات وتستعيد قابليتها للطي.

تشمل العمليات المبكرة الأخرى أيضاً برودة الموت، التي تحدث عندما يبرد الجسم لأنه «يتوقف عن ضبط حرارته الداخلية». وتعتمد برودة الجسم عموماً على حرارة البيئة المحيطة به، التي تبلغها حرارةُ الجسم طبيعياً في غضون 18 إلى 20 ساعة بعد الموت.

من إشارات التحلل الأخرى اكتساب الجسم مسحة خضراء، مع انفصال الجلد عن الجسم وتجزعه، وظهور البقعة السوداء، والتعفن بالتأكيد.

إشارات التفكك الأخرى

تعود المسحة الخضراء التي يكتسبها الجسم بعد الموت إلى تراكم الغازات في تجاويفه. ومن أبرز مركبات هذه الغازات مادة تُعرف بالهيدروجين المكبرت. يكتب غوف أن الأخير يتفاعل «مع الهيموغلوبين في الدم ليشكّل السلفهيموغلوبين» أو الصباغ المخضوضر الذي يعطي الجسم الميت هذا اللون الغريب.

أما بالنسبة إلى انزلاق الجلد، حين ينفصل الجلد تماماً عن الجسم، فقد يبدو لنا أقل إزعاجاً عندما نتذكر أن الطبقة الخارجية الحامية من جلدنا تتألف في الواقع من خلايا ميتة.

يوضح غوف: «الطبقة الخارجية من الجلد، أو الطبقة المتقرنة، ميتة. من المفترض أن تكون كذلك. وتؤدي دوراً حيوياً في الحفاظ على الماء وحماية الجلد الحي الكامن تحتها».

يضيف غوف: «تتساقط هذه الطبقة باستمرار وتحل محلها البشرة الكامنة تحتها. ولكن عند الوفاة، في البيئات الرطبة، تبدأ البشرة بالانفصال عن الأدمة تحتها ومن السهل إزالتها عن الجسم».

عندما ينفصل الجلد تماماً عن يدَي الإنسان الميت، تُدعى هذه الحالة «تشكّل القفازين».

بالإضافة إلى ذلك، تحدث ظاهرة تُعرف بـ{التجزع» عندما «تهاجر» أنواع معينة من البكتيريا في البطن إلى الأوعية الدموية، ما يؤدي إلى اكتسابها لوناً أرجوانياً مخضوضراً. ونتيجة هذه الظاهرة، يبدو الجلد في بعض أجزاء الجسم (الجذع، والساقين، والذراعين عادةً) متجزعاً كالرخام.

علاوة على ذلك، إذا ظلت العينان مفتوحتين بعد الموت، «يجف جزء القرنية الذي يتعرض للهواء، ما يؤدي إلى اكتسابه لوناً أحمر برتقالياً إلى أسود»، حسبما يشير غوف. وتُدعى هذه الظاهرة «البقعة السوداء» (tache noire).

أخيراً، نصل إلى التعفن، الذي يدعوه غوف «عملية إعادة التدوير التي تعتمدها الطبيعة». تصبح هذه العملية سهلة نتيجة العمل المتضافر للبكتيريا، والفطريات، والحشرات، والعوامل الرمرامة بمرور الوقت. ويتواصل هذا العمل إلى أن يتجرد الجسم من الأنسجة اللينة ولا يتبقى منه إلا الهيكل العظمي.

مراحل التفكك

يشير غوف أيضاً إلى أن عدد مراحل التفكك يختلف باختلاف العلماء، إلا أنه ينصح بتأمل خمس مراحل بارزة.

أولاً، تشير المرحلة الحديثة إلى الجسم بعيد الوفاة عندما نلاحظ إشارات قليلة إلى بدء عملية التفكك. تشمل العمليات القليلة التي تبدأ في هذه المرحلة شحوب اللون واكتساب الجسم مسحة خضراء، وازرقاق الجثة، وظهور البقعة السوداء.

كذلك قد تتوافد حشرات عدة، خصوصاً الذباب، إلى الجثة في هذه المرحلة كي تضع بيضها، الذي تفقس منه اليرقات لاحقاً وتؤدي دوراً في تجريد الهيكل الهظمي من الأنسجة اللينة المحيطة به.

تكتب الخبيرة المتخصصة في علم الأمراض كلارا فالنتاين في كتابها: «صحيح أن الذباب ويرقاناته (النغف) تبدو مقززة جداً، إلا أنها خُلقت تماماً للعمل الذي تؤديه. لذلك يدعوها خبراء كثيرون «دافني الموتى غير المرئيين في العالم».

تضيف موضحةً أن الذباب الذي يضع البيض وينجذب إلى الجثث «يكون عادةً من الذباب الأزرق من نوع الخوتعيات». يعمد «إلى وضع بيضه في المنخرين أو الجروح فقط لأن يرقاناته الصغيرة تقتات باللحم المتحلل، إلا أنها تعجز عن تفكيك الجلد لتتغذى».

تشمل أنواع الذباب الأخرى التي تنجذب إلى الجثة نوعاً آخر، وفق فالنتاين، «لا يضع البيض بل النغف الذي يبدأ باستهلاك اللحم في الحال. ويُدعى هذا الذباب على نحو معبّر Sarcophagidae أي ذباب اللحم».

في المرحلة الثانية من التفكك، أو ما يُدعى مرحلة الانتفاخ، يبدأ التعفن. فتتراكم الغازات في البطن وتجعله يعلو ويتورم. نتيجة لذلك، يبدو الجسم منتفخاً.

وصولاً إلى العظم

خلال المرحلة الثالثة أو مرحلة التحلل، يتفكك الجلد بسبب التعفن وعمل النغف، ما يسمح بتسرب الغازات المتراكمة. ويُعتبر هذا أحد أسباب انبعاث روائح قوية واضحة من الجسم في هذه المرحلة.

تقدّم كايتلين دوتي، التي تتولى تجهيز الجثث للدفن، وصفاً دقيقاً لهذه الروائح في كتابها «الدخان يدخل في عينيك» (Smoke Gets In Your Eyes):

«تشبه أولى روائح الجسم المتعفن رائحة عرقسوس مع مسحة حمضيات قوية. لا أقصد بذلك الليمون الحامض الصيفي الطازج، بل رذاذ عبوة من معطر الحمامات الصناعي برائحة البرتقال عندما يُرش في وجهك مباشرةً. أضف إلى ذلك كأساً من عصير العنب الأبيض صُبت قبل يوم وبدأت تجذب الذباب، ثم زد دلواً من السمك المتروك في الشمس. هذه رائحة تفكك جسم الإنسان».

نصل بعد ذلك إلى المرحلة ما قبل الأخيرة، ما بعد التحلل. وعنها يكتب غوف: «يتحوّل الجسم إلى جلد، وغضروف، وعظم». في هذه المرحلة، تأتي عادةً مجموعة متنوعة من الخنافس لتزيل الأنسجة اللينة ولا تخلف وراءها سوى العظم.

أما المرحلة الأخيرة، فهي مرحلة الهيكل العظمي، التي لا يتبقى فيها من الجسم سوى الهيكل العظمي وبضع شعيرات. تعتمد الفترة التي يحتاج إليها الجسم ليتفكك على المنطقة الجغرافية الموجود فيها ومدى تفاعله مع الظروف البيئية المحيطة. فإذا كان في مناخ جاف حرارته شديدة الارتفاع أو الانخفاض، فقد يتحنّط.

لم نتعلم عن هذا كله؟

قد تتساءل في هذه المرحلة: «بماذا يفيدنا تعلّم هذه التفاصيل عن عملية تفكك الجسم بعد الموت؟». تؤكد دوتي أن التفكير في الموت ومناقشة أي أوجه مرتبطة به قد تحوّلا إلى أمر محرّم في عالمنا اليوم. تضيف موضحة: «قد نبذل قصارى جهدنا لندفع بالموت إلى الهامش، محتجزين الجثث وراء أبواب فولاذية مضادة للصدأ ومبقين المرضى والمنازعين في غرف المستشفيات. وهكذا ننجح بمهارة في إخفاء الموت، ما يجعلنا نعتقد تقريباً أننا أول جيل من الخالدين. لكننا لسنا كذلك».

تعتبر دوتي أن هذا الحظر الضمني للمواضيع المرتبطة بالموت يعمّق خوف الناس منه، سواء كان موتهم هم أو موت غيرهم، ويسهم في نشر المعلومات الخاطئة عن الجثث كمواضع لنقل العدوى.

ما زالت خرافة أن الجثث مرتع للعدوى مستمرة رغم كثرة الأدلة التي تشير إلى العكس. لهذا السبب تكتب دوتي: «من المفيد أن نتذكر مدى ضعفنا. ونجني الكثير من العودة إلى إثارة موضوع تفكك الجسم بطريقة مسؤولة».

عندما نكوّن فكرة عما يحدث في الجسم بعد الموت، يتيح لنا ذلك التخلص من هالة الخوف المحيطة بإدراكنا فناءنا. كذلك يساعدنا في الاعتناء بمن نحب بطريقة أفضل، حتى بعد لحظاتهم الأخيرة.

يشير العلماء، مثلاً، إلى أن الفكرة الخاطئة عن أن الجثث تنشر الأمراض بسهولة «خرافة أقوى من أن تموت» يدعمها غالباً الوصف المبالغ فيه للجثث في وسائل الإعلام.

تُعتبر هذه مشكلة كبيرة في حالة الوفيات التي تنجم عن كوارث طبيعية. رغم ذلك، تذكر منظمة الصحة العالمية على صفحتها بكل وضوح: «لا تؤدي الجثث الناجمة عن كوارث طبيعية عادةً إلى انتشار الأوبئة».

على نحو مماثل، يؤكد معدو تقرير خاص نُشر في مجلة Pan American Journal of Public Health: «طوال 20 سنة، عرفنا أن جثث مَن يموتون في الكوارث الطبيعية لا تسبب انتشار الأمراض المعدية».

ويتابعون مشددين على أن معرفة أن الجثث لا تشكّل تلقائياً خطراً صحياً قد تقود إلى سياسات أفضل بشأن الموت. كذلك تساعد مَن ظلوا على قيد الحياة في تقبّل خسارتهم بطريقة طبيعية تقدمية.

نأمل أن تسهم المعلومات التي قدمناها في هذا المقال في توجيه علاقتك مع الفناء ومع جسمك اللذين يشكّلان جزءاً من العالم الطبيعي.

تخشب الجثة يبدأ في الساعتين إلى الساعات الست بعد الموت

عندما ينفصل الجلد عن يدَي الميت تُدعى هذه الحالة «تشكّل القفازين»
back to top