رسائل القطط

نشر في 23-06-2018
آخر تحديث 23-06-2018 | 00:00
No Image Caption
تمطّت نينا وتثاءبت بسوادها الحالك، وفمها الورديّ...

استنشقت إلى جوفها عبق الحياة الدّافئة السعيدة، وروائح السمك المقلي الشهي، ورائحة الثّوم والبقدونس والزبدة السّاخنة التي تنبعث من المطبخ. هل ينبغي التّسلّل إلى المطبخ؟ لم يحن وقت الطعام بعْدُ، ولا تحبّ السيّدة أبداً أن تتعلّق بقدميها أثناء إعداد الطعام. وبمهارة زائدةٍ، ولكنْ بخفّة راقصة باليه متعبة وضجرة، استدارت يمنةً ويسرى، وتلوَّت مجدداً على المرتبة. وفجأةً، شعرت بالقشعريرة بسبب مرور الهواء بمحاذاة ظهرها. طارت ذبابة قربها، غير أنّها لم تكترثْ بها... إذ كانت تريد أن تتذوّق هناك متعة النّوم بسعادة واسترخاء، فيما الروائح التي تفوح من المطبخ تدغدغ مسامّ أنفها الورديّ.

وفي إحدى المرّات، بدأت نينا تشمّ قدمَي صاحب آرتور لمعرفة رسالة العشق التي أرسلها لها؛ وهذا أحد الأمثلة... إلّا أنّها سرعان ما ابتعدت فوراً عن أخمص قدمَي الرّجل؛ إذ اعتقدت أنّها ربما كشفت عن غير قصد السّر الكبير للقططة. ولمعرفة رسالة آرتور، كان عليها أن تنتظر إلى أن يهبط الظلام ويخلع الرّجل حذاءه. وعندما تعرّت الأيدي والأقدام وخلد الجميع إلى النّوم، قرأت بسعادة رسالة العشق التي هيّجت دمها، وأذكَتْ مجدداً نار الشّهوة والرّغبة التي ظنّت أنّها قد خمدت في داخلها.

فكّرت نينا في سرّها: {يا لآرتور المسكين! ما يعيشه آرتور عشق مخيف ومليء بالخيبة والقلق. آرتور الفتيّ والأنيق والوسيم جدّاً والقويّ خضع لعملية خاصة منذ سنته الأولى؛ مثلي تماماً. غير أنّني تمتّعت بالعشق حتى عامي الثالث. للأسف، نحن من القطط التي خضعت لعمليات}.

«يا لها من كلمات مخيفة وظالمة!}.

ثمّة أصوات وراء باب الغرفة، وتعاسة في المحيط، ورجفة تولّد الرّعب، ورائحة خوف... اقشعرّ شعرها كلُّه... وسرى تيار كهربائي من شاربها إلى آخر ذيلها، وانتشر في جسدها كلّه؛ فجَمد جسمُها كلّه، وصارت مشاعرها بأسرها مثل قوسٍ مشدود، وسهم متأهب للانطلاق... كانت مشحونة بالتّوتر، فوقفت دونَ حركة أو صوت، ثمّ استرخت. وهذه المرة، انتقل التيار أمواجاً من رأس ذيلها، مارّاً بمنابت شعرها، ليصل حتّى شاربها.

«لم يكن ذلك في الأصل إلّا التيّار الهوائي المشُبع برائحة الكلاب، والذي تسلّل عبر الباب الخارجي الذي ظلّ مفتوحاً لثوانٍ أثناء استدعاء الضّيف إلى الدّاخل!}.

منذ تلك الحادثة الغريبة علمت هي أيضاً أنّها غدت جبانةً ومرتابةً وخائفة إلى أبعد الحدود... ربّما أكون بحاجة إلى طبيب نفسي؛ هذا أمر رائج الآن... فالجميع يأخذون قططهم إلى طبيب نفسي لسبب أو لآخر، لكنّ سيدتي على كلّ حال تعارض فكرة الطبيب النفسي للإنسان وللحيوان، وتصف عمل هؤلاء بأنه كسب للمال عن طريق {الحمقى}.

وبعد لحظة الخوف، سلّمت نينا نفسها لخَدر الارتخاء الذي راودها من المكان الذي ترقد فيه. وبعينين نصف مفتوحتين راحت تراقب الضّيف الّذي دخل الغرفة. إنّه رجلٌ متوسط السنّ لم ترَه من قبل، وهو ذو قامة طويلة، ومتأنّق بزيّ رجل غنيّ...

«نعم، لدينا قطّة سوداء كما ترى. عارضنا طويلاً فكرة امتلاك قطة... إذ إنّ امتلاك قطّة يستدعي الإقامة... ولكنْ، بعد أن اضطرّ أحد الأصدقاء للمغادرة بسبب مرض أصابه أخذناها؛ لأنني تأثرتُ بحزنه لبقائها هناك وحدها».

«ما اسمها؟}.

«اسمها نينا. لكنْ نحن...»

تثاءبت نينا بقلق، ستُعاد الحكاية ذاتها مجدّداً... الحكاية التي ترويها السيّدة لكلّ قادم جديد. سمعتْها نينا مئات المرات حتّى حفظتْها عن ظهر قلب، وبدأت تعيدها مع سيدتها بصوت منخفض: {لم نختر نحنُ اسمها، ولم نُعجَب بهذا الاسم كثيراً. ولكن هذا هو اسمها. أما أسماء القطط عندنا فهي: تكير، صارمال، آراب، ماراب... لو كان الأمر بيدنا لسمّيناها {مارصق}. حتى إن الصديق الذي أعطانا القطّة لم يسمِّها بنفسه نينا، بل أصحابها القدامى هم الذين فعلوا ذلك}.

ماءت نينا {مياااووو!} بصوتٍ عالٍ؛ فَرحة بحفظها ما ستقوله سيدتها. إصابة سديدة، فها قد أعادت أخيراً نص الاعتذار غير الضروري هذا بدقّة متناهية؛ من البداية إلى النهاية ومع ذكر كل التفاصيل!

«أحياناً أكاد أصدّق وجود تواصل غريب وفطري بيننا}. الأمر الذي لم تفهمه نينا هو الشيء المخُجل في اسمها!

إنه اسم قطّ عادي قد يبدو أوروبيّاً قليلاً. ولكنّ الأهم من اسم أي قطة هو شخصيّتها، وذكاؤها، وطباعها، ورشاقة حركاتها، واستقلاليتها. كانت قد تعرّفت على قطّ منذ زمن طويل، وكان اسمه غريباً؛ إذ كان يدعى {بروليتر}. كان يجب أن يُطلَق عليه في الأصل اسم {تزكَاه» tezqah، أو شيء من هذا القبيل، لا اسم {بروليتر}.

بروليتر كان قطاً عاديّاً جداً. إذ كان يجلس على الرّصيف أمام مخزن تجاري كبير بواجهاته التي تنضح بالألوان والأضواء والأناقة والثّراء ملتفّاً بالأسمال البالية، ومتسوّلاً مع صاحبه؛ بدءاً من السّاعة التي تفتح فيها الدكاكين وحتّى انتهاء دوام العمل... بالنسبة لقطٍّ، لا يُعدّ هذا عملاً متعباً، بل كان تافهاً كثيراً؛ إذ كلّ ما كان يفعله هناك هو النوم والتّمسكن ولعق نفسه.

وكان صاحبه قد كتب على قطعة الكرتون المتآكلة أمامه العبارة التالية: {أنا وقطّي جائعان، رجاءً أعينونا!}. في الحقيقة، لا تظهر على هيئة بروليتر ملامح الجائع كثيراً؛ حتّى إنه يمكن الإشارة إلى تراكم الدّهن المفرط في جسده. قد لا يكون عمله صعباً، لكنّ الذهاب والعودة باستمرار قد ينهكان القط. فكّرت نينا في سرّها: {نحن القطط لا نحبّ أية وسيلة نقل إطلاقاً... حتّى إنّ السيّارة الأكثر فخامة مصدر أذى لنا. فمعداتنا يصيبها الغثيان}.

فكّرت في بروليتر مجدداً. كانت سيّدتها قد ذكرت أنّها رأت ذلك القطّ مع صاحبه يوم السبت بعد ساعة إغلاق المحلّات، أثناء الانتظار في موقف {الميترو}. وذكرت أنه كان جالساً على كرسيّ صغير في محطة الأنفاق قرب صاحبه، وهو يلعق جسده بسعادة عاملٍ كادح متعب قد فرغ من يوم عمله الطويل. وفي أحد الأيام، ترك صاحبه المتسوّل ولم يعد إليه قطّ. كم مرّةً مررْتُ في السوق... الرّجل في المكان ذاته مجدداً، لكنّ القطّ غير موجود هناك. من يدري ما حلّ به؟ أهرب أم مات؟!

حين فكّرت نينا في ذلك، شعرت ولو لهنيهة بالقهر والفراغ القابعين في داخلها، غير أنّها فرحت ضمناً لأنها ليست مضطرّة للعمل. وراودها خاطرٌ: ترى، ما الذي كان بروليتر يبيعه؟! ماذا أنتج؟ وبعد التفكير في الأمر قليلاً، أدركت أنه أنتج شيئاً مهمّاً جدّاً وأخذ يروّج له... شيئاً يُشعر النّاس بالحاجة إليه، ويُفسّر سبب تربيتهم للقططة والكلاب في بيوتهم... إنّه الشعور بالرّحمة... والشعور بالسعادة الناجمة عن مساعدة كائن ما.

شعرت بمتعة عارمة لأنّها ليست مضطرة إلى الخروج للعمل كلّ صباح بعد إيقاظها بطريقة مزعجة، ولأنها آمنة من ضراوة الجوع. كما شعرت بالسعادة لأنّها نجحت في تكرار حديث سيدتها المتعلق باسمها كلمة كلمة ودون أي خطأ يذكر، وكانت ممتنّة لدفء الغرفة، وحدوث كل شيء في البيت في أوانه المناسب...

انتصبت قليلاً على المرتبة، ثم تراجعت القهقرى... وبعد ذلك، ماءت متثائبة، وأصدرت صوتاً طويلاً ورفيعاً... ومن ثمّ تسلّلت بانسياب متّجهة إلى ساقَي البنطال ذي القماش الإنكليزي الفاخر، والحذاء البني الذي نقل إلى الغرفة رائحة الشارع والحريّة بأسرها. وحين شعرت بتضايق الرّجل وتردّده لسبب أو لآخر، أحسّت بالفرح، وفكّرت في سرّها: {من الواضح أنه يشعر بالاشمئزاز منّي قليلاً، وربما يخاف من القطط}. يجب أن تتوجّه نحوه تدريجياً؛ فهذه فرصة لكسر روتين يومها الاعتيادي الرتيب. مرمر... مرمر... مواااووو... لم يفهمْ... يجب أن أتظاهر وكأنني غير مرغوبة... فالرّجل ليس واحداً من الأصدقاء المقرّبين أو الزّائرين الدّائمين، وسيخجل من القول:} أبعدوا هذه القطّة الوسخة...}. وعلى كل حال، الكثير من الناس يتردّدون في الاعتراف بكرههم للقططة وخوفهم منها.

وقبل أن يستقر الضّيف في أي مكان، قفزت إلى المقعد المنتصب قبالة أجمل ركن في الغرفة، والذي أعدّ خصيصاً للضيوف. إذ كان يُطلّ على الصُّور الجميلة التي اختيرت بعناية فائقة، وعلى الجدار المزيّن، والنباتات الخضراء في الزاوية، والنافذة المضيئة التي تُرى منها أغصان الحور الرفيعة وأغصان الصنوبر. والآن، ستصاب السّيدة بالدهشة... لا بد أنّها ستأتي إليها وتضعها في حضنها، وستعاتبها بمحبة وغنج بكلماتها المعتادة، وسيجلس الرجل في المكان الذي نهضت منه القطّة للتو، وسيشعر بالانزعاج أثناء ذلك. لا بد أنه سيشمئز. ميااااووووو... هذا اليوم مذهل وجميل ومتميّز مثلما تريد هي تماماً.

«ربّما كنت تعرف ابنة نينا}.

كان صوت السّيدة وهي تتحدّث مع الضّيف جادّاً؛ لا سيما وهي تقول له شيئاً مهمّاً أثار حيرته وانتباهه.

لمَ لا يدرك هؤلاء النّاس أنّ أولادهم لا يكترثون أبداً بالآخرين، وكذلك الأمر بالنسبة إلى قططهم؟! وأثناء جلوس الضيف يائساً على المقعد الذي تركت عليه نينا بعض شعراتها وحرارتها المعتدلة، سأل بصوتٍ غير مبالٍ:} وكيف لي أن أعرفها؟!}.

«إنها في الوطن، عند جماعتنا؛ عند أصدقائنا المشتركين يا عزيزي!}.

«أحقّاً ما تقولينه؟! لقد زرتهم في الأسبوع الماضي... كانت في المنزل قطّة لونها رمادي وأبيض، ذات ذيل كثيف الشّعر. غير أنّها لم تكن تشبه هذه أبداً. فهذه قطة جميلة...».

وهذه فظاظة إنسان لا يحب القطط... بخ بخ... بس بس!!

أنا لستُ {هذه}، سأعلّم هذا الرّجل ألّا يقول عنّي {هذه}.

«نعم، هي بيضاء ورمادية، مرقّطة. ولكنّ كلّ من رآها لم يملّ من الحديث عن لطفها ولعبها الرّشيق... لدينا صديق آخر حين رأى القطة كيرلي شعر بالنفور من قطّته لأسبوع كامل، وقال: وهل هذه قطّة؟!}.

« آه، مياااو! الآن ستبدأ هذه الحكاية...»

فكرّت نينا في جدّيّة تامة: {ترى، هل أهرب من هذا المنزل لأرتاح من هذه الحكايات المزعجة التي تُعاد مئات المرات؟}. يبدو لي وكأنّ لا همَّ لديهم إلا الخوض في لغو القطط؟ وفجأة، أصابتها قشعريرة بعد أن شعرت بالدهشة. كيف لم تشعر بالأمر؟! كيف لم تلتقط الرائحة؟! ماذا يحدث؟! {أَهَرِمْتُ؟ أم أنّ شاربي وحاجبّي ونهايات شعيراتي وأذنّي وأنفي قد بدأت تفقد حساسيّتها الفائقة فعلاً؟! فمنذ تلك العملية القذرة وأنا لم أعد إلى سابق عهدي، ولا أعلم كيف!}. إنّ الرّسالة هناك بالتأكيد... إنّها داخل فردَتَي حذاء الرّجل الثمين، والمصنوع من الجلد الفاخر... هذه المرّة، بدأت تحتكّ بالضّيف بجدّية وليس بدافع اللعب أو الرغبة في إزعاجه. {كم أكون أحياناً غافلة ومشتّتة الذهن! إذاً، ها هي الرسالة. لقد كُتِبت في الأسبوع الماضي؛ ليست متأخّرة كثيراً نسبياً. الخطوط، أقصد الحروف الشّمّيّة لم تمْحَ بعد. وأخيراً، ها قد وصلتني رسالة من كيرلي؛ بعد مرور شهور طويلة}.

نامت عند أخمص قدمَي الغريب، فاتحة مسامّ أنفها بأقصى قدرتها...

وبفارغ الصبر، راحت تقرأ الرسالة مصدرة همهمات خفيفة. إنّها ككلّ مرة قد كُتِبت بأسلوب عفويّ وظريف. ورغم وقاحتها قليلاً إلّا أنّها تدلّ على الذكاء وخفّة الظل.

back to top