اللص التائب واللص الجديد

نشر في 11-06-2018
آخر تحديث 11-06-2018 | 00:01
تنتقل شهرزاد في هذ الجزء من حكايات الليالي العربية إلى قصص التجار والشطار واللصوص الأذكياء. تحكي عن أحد كبار اللصوص الذي تاب وأناب، وافتتح محلاً للأقمشة، وكيف كان مصيره. كذلك نتعرّف إلى قصة الأديب الذكي والشيخ الذي هام بامرأة لم يعرفها إلا من حمارها، وقصة المعلم الذي لم يجد عملاً يرتزق منه فخطر بباله أن يحتال لكسب العيش وفتح مكتباً لتعليم الصبيان.
لما كانت الليلة التاسعة والثمانون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: يحكى أيها الملك السعيد أن رجلاً من كبار اللصوص أدركته رحمة الله فتاب وأناب، وفتح لنفسه متجراً يبيع فيه الأقمشة، فأقبل الناس على متجره، ولم يمض إلا قليل حتى صار من كبار التجار.

واتفق أن أحد اللصوص المحتالين، مرّ على ذلك المتجر يوماً، ولم يكن يعرف أمراً عن ماضي صاحبة، فحدثته نفسه بالاستيلاء على بعض ما فيه، وانتظر إلى أن أغلق الرجل متجره في المساء منصرفاً إلى بيته، ثم توجه هو إلى المتجر بعدما تزين بزي صاحبه، ففتح أبوابه، ونادي حارس السوق وقال له: خذ هذه الشمعة وأشعلها لي لأن عندي حساباً أريد أن أنجزه. لما أشعل الحارس الشمعة ورجع بها إليه، وجده جالساً في المتجر ودفتر الحساب في يده، فأعطاه الشمعة وهم بالانصراف. ولكن اللص استوقفه وأعطاه درهمين، وقال له: أتمم جميلك معي وادع لي جمالاً لينقل على جمله الآن بعض الأقمشة إلى تاجر اشتراها ويريد السفر الليلة في سفينته. أخذ الحارس الدرهمين شاكراً، وغاب عنه قليلاً، ثم رجع إليه ومعه الجمال المطلوب والجمل... وبقي هناك متطوعاً بالمساعدة اللازمة حتى مضي الجمل بحمله، وأغلق اللص المتجر كما كان، فودعه الحارس بكل احترام، وهو معتقد أنه صاحب المتجر!

وفي صباح اليوم التالي، رجع اللص القديم التائب إلى متجره، وتفقد صناديق الأقمشة فوجدها أربعة، ووجد آثار الشمعة بالقرب من دفتر الحساب، فتعجب من ذلك، ثم دعا الحارس وسأله: كيف غفلت عن حراسة المتجر بالليل؟ فقال له الحارس: إنني لم أغفل عن حراسته، وقد بقيت بجانبه حتى الصبح منذ انصرفت أنت عقب ذهاب الجمل بما حمل!

واشتد عجب صاحب المتجر، مما سمعه من الحارس، ولم يزل يسأله ويتلطف معه في الحديث حتى وقف منه على كل ما وقع في الليلة الماضية، وأدرك أن الحارس المسكين جازت عليه حيلة اللص الذي سرق الأقمشة، فتركه يأخذها بل ساعده على ذلك وهو لا يدري حقيقة أمره. ثم سأله: هل تعرف الجمال الذي جئتني به أمس؟ فقال الحارس: نعم أعرفه. فطلب إليه أن يدعوه إليه. ولما جاء الجمال، طلب إليه أن يدله على السفينة التي نقل الأقمشة إليها على جملة، فدله عليها. ولكنه لم يجد الأقمشة فيها، وعلم من صاحبها أن التاجر الذي جاء بالأقمشة لبث قليلاً حتى عدل عن رغبته في السفر، وأرجعها إلى مخازنه على جمل آخر!

لما سمع التاجر كلام صاحب السفينة، طلب إليه أن يدله على الجمال الذي نقل الأقمشة من سفينته، فدله عليه، ثم استطاع بواسطة هذا الجمال أن يصل إلى المخازن التي وضع اللص فيها الأقمشة. ولم يكن اللص موجوداً هناك في ذلك الوقت، وعلم من جيرانه أنه ذهب لإحضار جمل ينقل عليه بعض الأقمشة، فادعى أنه الجمال الذي اتفق معه على نقل الأقمشة. وطلب من الجمال الذي معه أن يحضر جمله في أسرع وقت ممكن، وأعطاه درهمين زيادة على الأجر المماثل لما أخذه على نقل الأقمشة من السفينة إلى المخازن. ولم تمض ساعة حتى كانت الأقمشة المسروقة أعيدت إلى مكانها الأول في متجر صاحبها اللص التائب، ومعها ثوب كان اللص الذي سرقها تركه فوقها في مخازنه إلى أن يعود بالجمل لنقلها من جديد!

وفيما هو جالس في المتجر، وعنده علماء يشترون منه أقمشة، دخل عليه شاب لا يعرفه، وبعدما سلم عليه بأدب واحترام، قال له: هل عندك ثوب تبيعه لي، فعرض عليه الثوب الذي وجده فوق الأقمشة المسروقة التي استردها. أخذ الشاب يتفرج على الثوب، ثم ارتداه ليجربه على جسمه. وقال لصاحب المتجر: إني يا سيدي شاب فقير مسكين، وفي حاجة إلى هذا الثوب المناسب الجسمي، ولا أريد منك إلا أن تبيعه لي من غير ربح، وأنا أعرف ثمنه عليك، ولهذا أرجو أن تسمح لي بأن آخذه وأنصرف الآن بسلام.

ضحك التاجر اللص القديم، إذ أدرك أن الشاب هو اللص الذي سرق الأقمشة، وتركه يأخذ ثوبه وينصرف كما أراد!

المعلم وزوجة الغائب

لما كانت الليلة الواحدة والتسعون بعد الأربعمئة قالت شهرزاد للملك شهريار: يحكى أيها الملك السعيد، أن رجلاً لا يعرف القراءة والكتابة، لم يجد عملاً يرتزق منه ، فخطر بباله أن يحتال لكسب العيش وفتح مكتباً لتعليم الصبيان، علق على جدرانه كثيراً من الألواح والأوراق المكتوبة، وصار يجلس أمامه واضعاً على رأسه عمامة كبيرة، ليعلمهم في مكتبه. فكان يعهد إلى كبارهم في تعليم صغارهم، ويكتفي بمراقبتهم والإشراف عليهم. وينفق على نفسه مما يحصل عليه من أهل هؤلاء وهؤلاء.

وفي يوم من الأيام، جاء إلى والدة أحد الصبيان الذين في المكتب، خطاب من زوجها الغائب في سفر بعيد، فأخذته وتوجهت به إلى المكتب، وأعطته للمعلم كي يقرأه لها. لما تسلم الخطاب منها، تملكته الحيرة، ووقع في حرج شديد، ثم قال لنفسه: لو أنني كلفت أحد الصبيان أن يقرأ هذا الخطاب، ما عذرتني هذه المرأة، وربما لا أسلم من الفضيحة، فأفقد مكتبي وأعود للتعطل. وخير لي أن أتظاهر بقراءته، وأخبرها بأي أمر من عندي والسلام. وعلى هذا فض الخطاب، ثم أمسكه مقلوباً، متظاهراً بأنه يقرأ ما فيه. ومضت مدة وهو ساكت يكتفي بهز رأسه وتحريك شفتيه وحاجبيه أسفاً ودهشة. لما رأت المرأة ذلك ظنت أن زوجها مات في غربته أو أصيب بمرض أو نكبة. فقالت للمعلم وهي تبكي: بالله عليك يا سيدي لا تكتم عني أمراً، وإذا كان زوجي مات فأخبرني بذلك كي أقوم بالواجب. لما سمع كلامها، قال لنفسه: لا بد من أن زوجها كان مريضاً، وأنها كانت تتوقع موته. ثم التفت إليها وقال لها: يا سيدتي أنا لا أريد أن أسمعك مثل هذا الخبر المؤلم. لما سمعت كلامه، أيقنت أن زوجها مات، وخرجت من عنده وهي تلطم خديها وتنوح وتولول حزناً على زوجها. وما وصلت إلى بيتها حتى اجتمع عندها الجيران لتعزيتها في هذا المصاب، الذي علمت به من ذلك الخطاب!

وكان زوجها أرسل مع خطابه إليها خطاباً آخر إلى أحد أقربائه، وفيه أنه في خير صحة وسعادة، وأنه في طريق عودته إلى بلده وأهله، وسيصل بعد أيام معدودة. لما سمع قريبه هذا بما جرى مع زوجته، تعجب غاية العجب، وتوجه إليها وسألها: من الذي أخبرك بموت زوجك؟ فأخبرته بما كان من أمرها مع معلم المكتب، وأطلعته على الخطاب الذي قرأه لها. لما وقف على ما فيه، ضحك وقال لها: إن هذا الخطاب ليس فيه أي أمر عن موت زوجك أو مرضه، بل هو الذي أرسله بنفسه، كذلك أرسل لي خطاباً مثله، وفيه أنه بخير وعافية وسيكون عندنا هنا بعد أيام، وقد حمل لك معه كثيراً من الملابس والأقمشة!

وعجبت الزوجة من هذا الأمر كل العجب، ثم كفت عن البكاء والعويل، وفضت المأتم الذي أقامته لزوجها، وتوجهت مع قريبه إلى معلم المكتب وقالت له: كيف أخبرتني بموت زوجي مع أنه حي سليم وليس في خطابه إلا أنه قادم إلينا قريباً ومعه ملابس وأقمشة وغيرها؟ لما سمع المعلم كلامها، تملكه الخجل وانعقد لسانه، وتصبب العرق من وجهه، ولكنه تمالك نفسه بعد قليل. وقال لها: اعذريني يا سيدتي، فإني لما رأيت الخطاب فيه أقمشة، ورأيتك تبكين، اعتقدت أن زوجك مات وكفنوه بتلك الأقمشة.

أم عمرو والمعلم العاشق

لما كانت الليلة الثانية والتسعون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: يُحكى أيها الملك السعيد أن أحد الأدباء الأذكياء قرأ يوماً في بعض الكتب أن طول معاشرة المعلمين للصبيان تضعف العقل وتورث الحماقة. أراد أن يحقق ذلك بنفسه، وتوجه إلى مكتب لتعليم الصبيان، حيث قابل المعلم هناك، فإذا هو شيخ حسن الهيئة، ضاحك الثغر، قوي البنية، وعليه ثياب مليحة نظيفة. وقد أحسن الشيخ استقباله، وبالغ في إكرامه، وأخذ يحدثه في مختلف الشؤون، فإذا هو عالم لا يُجارى ولا يُبارى في تفسير القرآن والحديث، وفي علوم اللغة وفنون الشعر وغيرها. فقال الرجل لنفسه: هذا شيخ أمضى عشرات من السنين وهو يعلم الصبيان، ومع ذلك لم أجد من هو أكثر علماً وعقلاً وأدبا منه. ثم استأذن في الانصراف، فودعه الشيخ المعلم أحسن توديع، وأوصاه بألا يقطع زيارته، فشكره على فضله وكرمه، ووعد بأن يعود لزيارته بعد أيام.

وتردد الرجل على المكتب بعد ذلك مرات عدة، فكان في كل مرة يزداد يقيناً برجاحة عقل الشيخ المعلم، وحسن رأيه، إلى أن توجه إلى المكتب يوماً لزيارته، فوجد المكتب مغلقاً، وعلم من الجيران أن الشيخ معتكف في بيته حزناً على قريبة له علم بوفاتها!

لما سمع الرجل ذلك قال لنفسه: ينبغي أن أزوره في بيته لأقوم بواجب العزاء. ثم أخذ طريقه إلى بيت الشيخ المعلم، وطرق الباب، ففتحته له جارية وقالت له: إن سيدي معتكف لا يقابل أحداً. فقال لها: إني فلان وقد جئت لأعزيه في وفاة قريبته، فاستأذنيه لي في الدخول. فقالت: سمعاً وطاعة. ثم غابت قليلاً ورجعت إليه فاصطحبته إلى الغرفة التي اعتكف فيها سيدها وهناك وجده جالساً يبكي والدموع تبلل لحيته. جلس يعزيه ويواسيه، ولكن الشيخ لم يكن يزداد إلا حزناً وجزعاً وانتحاباً، حتى كاد قلب زائره يتقطع ويذوب رثاء له واشفاقاً عليه.

ثم سأله الرجل بعد قليل: هل المتوفاة كانت زوجتك يا سيدي؟ فقال الشيخ المعلم وهو يواصل البكاء: ليتها كانت زوجتي إذن لتعزيت بزواج غيرها! فقال له: لعلها أختك؟ فقال: لو كانت أختي ما حزنت لفقدها كل هذا الحزن! فقال له: إذن هي ابنتك؟ فاشتد بكاء الشيخ المعلم وقال له: ليتها كانت ابنتي، ولم يكن لي أولاد غيرها! لما سمع الرجل ذلك من الشيخ المعلم، تعجب غاية العجب، وقال له: إذن ما القرابة التي بينك وبينها؟ فقال الشيخ وهو يبكي: إنها كانت حبيبتي!

لما سمع الرجل من الشيخ المعلم أن المتوفاة حبيبته، كاد يغمى عليه من شدة الدهشة. وقال لنفسه: يظهر أن ما قرأته في الكتب عن حماقة معلمي الصبيان، لم يكن إلا صحيحاً. ثم تمالك نفسه والتفت إلى الشيخ وقال له: عظم الله أجرك في حبيبتك وعوضك خيراً منها في جمالها وكمالها. فقال له الشيخ: والله يا أخي أنا ما رأيتها ولا عرفتها، فلا أعرف هل يوجد أحسن منها أم لا!

لما سمع الرجل ذلك منه، اشتد عجبه، وقال لنفسه: هذه حماقة ما بعدها حماقة، كيف يحبها ويحزن عليها كل هذا الحزن وهو لا يعرفها؟ ثم سأله: هل تسمح بأن توضح لي كيف كانت حبيبتك مع أنك لا تعرفها؟. فقال له الشيخ: نعم يا ولدي العزيز، لقد عشقتها على السماع، إذ كنت جالساً أمام المكتب فسمعت عابر سبيل يتغنى باسمها منشداً:

يا أم عمرو جزاك الله صالحة

ردي على فؤاد أينما كان

لما سمعت شعره وإنشاده، تملكت الغيرة قلبي، فقلت لنفسي: لا بد من أنني عشقت أم عمرو هذه، إلا ما غرت عليها. وفيما أنا أفكر في هذا الأمر. وقد كدت أفقد عقلي من شدة العشق والوجد، مر بي عابر سبيل آخر، فإذا به يتغنى منشداً:

إذا ذهب الحمار بأم عمرو

فلا رجعت ولا رجع الحمار

فأدركت من فوري أن أم عمرو حبيبتي قد ماتت وذهبت إلى غير رجعة، ولم استطع مغالبة حزني وجزعي، فقمت وأغلقت المكتب بعد أن صرفت من كانوا فيه من الصبيان، ثم جئت إلى البيت فاعتكفت فيه لأبكي عليها كما ترى. ولولا أنك عزيز عندي ما أطلعتك على مكنون قلبي!

وأدركت شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

تاجر القماش يعلن توبته ويرد مسروقاته إلى لص جديد

الحارس المسكين انخدع بحيلة اللص الذي سرق الأقمشة فتركه يأخذها

خطاب الزوج ينجي زوجته الحسناء من براثن المعلم الأمي

الشيخ المعلّم عشق حبيبته من دون أن يراها

لم يجد المعلم عملاً يرتزق منه غير الاحتيال على الصبيان
back to top