حكاية الإسكندر ذي القرنين والقرية العجيبة (25 - 30)

نشر في 10-06-2018
آخر تحديث 10-06-2018 | 00:04
في هذة الحلقة تستكمل شهرزاد حكاية البصري. وكانت توقفت عند قبوله شرط الغلام، وهو أن يكون أجره في اليوم درهماً ودانقاً، ويتركه يجمع بين العمل والصلاة، حتى يبني له الجدار وقبل البصري الشرط راضياً. كذلك تحكي قصة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والبطريق، وحكاية الإسكندر ذي القرنين مع القرية العجيبة التي مرّ بها خلال إحدى غزواته، وكان أهلها ضعفاء، لا يملكون شيئاً من أسباب المعيشة، وقد جعلوا لأنفسهم قبوراً في دورهم، وأقاموا بالقرب منها، يعبدون الله سبحانه وتعالى، ويعيشون في انتظار الموت متبلغين ببعض الحشائش وأوراق الاشجار.
فلما كانت الليلة السادسة والثمانون بعد الأربعمئة قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن غلام البصري كان يصوم النهار ويقوم الليل ويتصدق كل يوم بدرهم ولا يبقي لنفسه غير الدانق. ولما انتهى من عمله قال البصري لهارون الرشيد: حاولت أن أعطيه بعض الدراهم مكافأة له، لكنه رفض أخذها، وقال لي: ما عند الله خير وأبقى. فعرضت عليه أن يقيم عندي ليعبد الله كما يشاء وانفق عليه ابتغاء وجه الله. فضحك وقال لي: لا تصلح العبادة إلا بالعمل. ولكن إذا جاء يوم الجمعة المقبل، فاقصد مقبرة المدينة. وهناك عند مدخلها تجد خيمة صغيرة تقيم بها إحدى الفقيرات الصالحات. فاسألها عني، وإذا وجدتني ميتاً فتول تجهيزي ودفني، ثم فتش ثيابي فتجد ياقوته كبيرة هي ملك لأمير المؤمنين هارون الرشيد، وعليك أن تحملها إليه وتبلغه تحيتي ومعها هذه الأبيات:

إن لاح نجم واعتراه أفول

فالكل إلا وجهه سيزول

اقرأ أيضا

يا سائلا عما سيأتي في غد

اعلم بأنك في غد مسئول

وكما حملت إلى القبور جنازة

اعلم بأنك مثلها محمول

قال البصري: ثم انصرف الشاب، وانتظرت إلى يوم الجمعة، فتوجهت إلى الخيمة التي وصفها، وهناك وجدته راقداً على الأرض بغير فراش أو غطاء، وقد توصد حجراً من أحجار القبور. ولما فتح عينيه ورآني، قال لي: الحمد لله الذي أقدرني على الوفاء بالوعد، وأسأله، سبحانه وتعالى، أن يعينك على أداء الأمانة. ثم نطق بالشهادتين وشهق شقة سكن بعدها جسمه سكون الموت. فقمت بتجهيزه ودفنه. ثم أخذت الياقوتة من ثيابه وجئت بها حسب وصيته!

لما انتهى البصري من قصته، بكى الرشيد مرة أخرى، ثم أنشد يقول:

أبكى غريبا أتاه الموت منفرداً

لم يلق ألفا له يشكو الذي وجدا

من بعد عز وشمل كان مجتمعاً

أضحى فريداً وحيداً لا يرى أحداً

يا غائباً ثبتت في القلب صورته

يا ليت أنك عندي دائماً أبداً

إن أيأس الموت من لقياك يا ولدي

فسوف ألقاك في دار البقاء غدا

ثم قال للبصري: لا تبرح بغداد حتى أصحبك إلى البصرة غداً لأزور قبره. وفي اليوم التالي سافر الرشيد مع البصري إلى بلده، حيث زار قبر غلامه الزاهد وترحم عليه ووزع كثيراً من الصدقات على الفقراء هناك.

أمير المؤمنين والبطريق

لما كانت الليلة السابعة والثمانون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: يحكى أيها الملك السعيد، أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، جهز جيشاً من المسلمين لحصار بعض حصون العدو في الشام، وكان بين أفراد هذا الجيش رجلان شقيقان، أظهرا من الجرأة والشجاعة والبراعة ما ليس له مثيل. فلما ثقل أمرهما على جيش العدو، جمع قائده أعوانه وقال لهم: أكفوني أمر هذين الرجلين، وأنا أكفيكم ما بقي من هؤلاء المسلمين. فقالوا: أننا لا نقدر عليهما إلا بالحيلة والمكر والخديعة. فقال لهم: افعلوا ما شئتم. وبعد أيام، استطاع أولئك الأعوان اللئام، أن يوقعوا الشقيقين المسلمين في شباك غدرهم ومكرهم، فقتلوا أحدهما ونال أجر الشهادة في سبيل الله، وأخذوا الآخر أسيراً، وحملوه إلى قائدهم في الحصن. لما رآه وتحدث إليه، أعجب بشجاعته وفصاحته، وقال لنفسه: مثل هذا قتله خسارة، ولكنه لو بقي حياً فقد يرجع إلى جيش المسلمين، ويصيبنا من ذلك خسران مبين. ثم دعا إليه أعوانه من البطارقة، وشاورهم في أمر ذلك الأسير المسلم الشجاع، وقال لهم: لو أنه كان معنا ما استطاع أحد أن يغلبنا.

فقال أحد البطارقة لقائد الحصن: أعطني هذا الأسير وأنا كفيل بحمله على الدخول في ديننا. فهؤلاء العرب لهم شغف عظيم بالنساء الجميلات، ولي ابنة لا يوجد في الدنيا أجمل منها، ومتى رآها وأطمعته في نفسها، فإنه يرتد عن دينه ليتزوجها ويعيش معنا كواحد منا. فقال له القائد: خذه إلى دارك، ولك مكافأة عظيمة أن نجحت في هذه المهمة.

ولما أخذ البطريق الأسير إلى داره، بالغ في إكرامه، ثم أدخل ابنته عليه، بعدما تزينت وتعطرت وارتدت أفخم الثياب، وأوصاها بأن تبذل كل جهدها كي توقعه في حبها، وتخرجه من دينه إلى دينها طمعاً في التنعم بها. فلما دخلت عليه، وقفت كالخادمة المطيعة بين يديه، ثم أخذت تتمشى أمامه مقبلة ومدبرة، وتبتسم له وهي ترمقه بنظراتها الساحرة، ولكنه غض بصره، واشتغل عنها بالصلاة وذكر الله. فاقتربت إليه وقالت له بصوت عذب رقيق: لماذا تعرض عني؟ ألا يعجبك جمالي؟ فقال لها: لا حاجة إليّ بجمال ولا مال، وما جئت إلى هذه البلاد إلا للقتال والطعن والنزال. ثم عاد إلى الصلاة، وانصرف إلى ذكر الله.

وأخذت ابنة البطريق تختلس إليه النظرات، وتستمع لما يرتله من الآيات المحكمات، بأعذب النغمات. فوقع حبه في قلبها، وتمنت أن يكون من نصيبها. وشرح الله صدرها للإسلام، فأنشدت من قلب مستهام، ودموعها تجرى كالماء الغمام:

كفاكم صدوداً فالفؤاد لكم يصبو

ومنذ التقينا قد تملكه الحب

وأني لأرضى في هواكم بكل ما

رضيتم، ومالي غير قربكموا طب

ثم ارتمت عليه، محاولة تقبيل يديه وقدميه، وقالت له: أسألك بالله ألا تبعدني وتجافيني، بعدما دخلت في دينك وتركت ديني، وليس لي بعد ذلك من أمنية، إلا أن أكون لك من الآن زوجة مخلصة وفية.

لما سمع الأسير المسلم كلامها، وتحقق إسلامها. قال لها: للزواج في الإسلام شروطه وأحكامه، فاصبري إلى أن يمن الله علينا بالرجوع إلى جيش المسلمين، وهناك نعقد زواجنا ونحمد الله رب العالمين. ثم لقنها أصول الدين، واتفق معها على أن تحتال لخروجهما من ذلك الحصن الحصين.

وكان والدها البطريق، ينتظرها وقد تملكه القلق والضيق. فلما رجعت إليه، أخذت في إدخال حيلتها عليه، وقالت له: أني تمكنت من إقناع ذلك الأسير بالدخول في ديننا، ورضي أن يحارب في صفوفنا، ولكنه اشترط أن يتم قبل ذلك زواجنا، في مكان بعيد من هنا، وذلك لأن أخاه قتل فيه. فقال لها والدها: هذا شرط يسير، وتنفيذه ليس بالأمر العسير. ثم تركها وتوجه مسرعاً إلى قائد الحصن فبشره بنجاح الحيلة التي دبرها مع ابنته، وأخبره برغبة الأسير في اتمام الزواج بعيداً عن الجهة التي قتل فيها شقيقه. فقال له القائد: لا بأس بذلك. وأذن لابنة البطريق في الخروج من الحصن، ومعها الأسير المسلم، ليعقدا زواجهما في أول قرية يصلان إليها، ثم ترجع به إلى الحصن، ليشترك في الدفاع عنه بعد ارتداده عن الإسلام.

وبعد قليل، غادر الأسير الحصن مع ابنة البطريق الحسناء، ولم يزالا يواصلان السير، ويدعوان الله أن يختم لهما بالخير.

ولما اقترب الفجر، أوقفا جواديهما عند بئر في الطريق، ونزلا هناك حيث توضأ كل منهما وصليا فريضة العشاء، ثم فريضة الفجر، وركبا جواديهما بعد ذلك ثانية، فانطلقا بهما يسابقان الريح، بينما هو يناجي ربه ويتضرع إليه أن يحرسهما من أخطار الطريق.

وكانت ابنة البطريق التي أسلمت وحسن إسلامها تؤمن على دعائه. فلما انتهى من شعره وإنشاده، سمعا هاتفاً يقول لهما: لا تخافا ولا تحزنا، إن الله معكما، وقد تقبل منكما الدعاء، وأرسل لحراستكما ملائكة من السماء، وعما قليل تصلان إلى مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، وتجتمعان بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب ومن معه من الصحابة الكرام. وهناك يتم زواجكما على غاية ما يرام، وينصر الله بكما الإسلام. لما سمعا ما قاله الهاتف، أخذهما العجب، وفاض قلباهما بالسرور والطرب. وما زالا بعد ذلك يسيران بين الوهاد والنجاد، إلى أن لاحت لهما مدينة يثرب من بعيد، ففرحا بذلك فرحا ما عليه من مزيد، ونزلا عن جواديهما، وسجدا لله شكرا على ما أنعم عليهما.

عقد القران

كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قد توجه في الوقت إلى المسجد كعادته قبل الفجر، وأخذ يتعبد ويتهجد، وما لبث المسجد أن امتلأ بالمصلين، من الصحابة والتابعين، فلما فرغوا من الصلاة، واطمأنت قلوبهم بذكر الله، أراد بعضهم الانصراف، فاستوقفهم عمر رضي الله عنه وقال لهم: انتظروا حتى يحضر العروسان، ونشهد جميعاً عقد القران. وفيما هم يتساءلون فيما بينهم عما يريد، وهم في عجب شديد، إذا بفارسين قد اقبلا، ولما بلغا باب المسجد ترجلا ثم دخلاه وكشف الشاب عن وجهه اللثام، فعرفوا أنه صاحبهم الذي خرج ومعه أخوه لفتح الشام، وكانت الأنباء قد وردت بأن أخاه لحق بالشهداء، فنال عند الله أعظم الجزاء، وبأنه هو وقع أسيراً في أيدي الاعداء، بعدما أبلى في قتالهم أحسن البلاء.

استقبله الجميع بالتكبير والتهليل، وهنؤوه بالنجاة من ذلك الأسر الطويل الوبيل. ثم روى لهم قصته بالتفصيل، فكرروا تهنئته، وأكرموه وصاحبته، ثم احتفلوا بزواجهما: وفرحوا لفرحهما. وبعد ذلك خرجا إلى الشام، على رأس نجدة من خيرة فرسان الإسلام، وما كادوا يصلون، وبأخوانهم هناك يلتقون، حتى تم لهم الفتح المبين، بعون الله رب العالمين، ثم عاشت ابنة البطريق المسلمة مع زوجها في أفراح ومسرات، وأنجبت له البنين والبنات، إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات، فلحقوا بمن سبقهم من الأموات، وسعدوا بروضات الجنات مع الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

الإسكندر والزاهد

لما كانت الليلة الثامنة والثمانون بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: يحكى أيها الملك السعيد أن الاسكندر ذا القرنين، مر خلال إحدى غزواته على قرية عجيبة، كل أهلها ضعفاء، لا يملكون شيئاً من أسباب المعيشة، وقد جعلوا لأنفسهم قبوراً في دورهم، وأقاموا بالقرب منها، يعبدون الله سبحانه وتعالى، ويعيشون في انتظار الموت متبلغين ببعض الحشائش وأوراق الأشجار. أرسل الاسكندر في طلب شيخهم ليسأله عما يحملهم على البقاء في هذه القرية المجدبة. فلما ذهب إليه رسول الاسكندر وطلب منه التوجه معه إليه، رد عليه قائلاً: مالي إليه حاجة. فرجع الرسول إلى الاسكندر وأبلغه ذلك الجواب. فتعجب غاية العجب، ومضى بنفسه إلى دار ذلك الشيخ، حيث وجده ينظف قبره الذي اتخذه لنفسه فيها، وقال له: ما الذي زهدكم في نعيم الدنيا، وجعلكم ترضون هذا العيش هنا، منتظرين الموت من ساعة إلى أخرى؟

فقال له الرجل: نعيم الدنيا زائل، ولا يشبع منه أحد، وقد حفرنا قبورنا في دورنا لتكون أمام أعيننا دائماً، فلا نزال نتذكر الموت، ونؤثر الحياة الآخرة الباقية، على الحياة الدنيا الفانية، ونحن نأكل الحشائش ونقنع بها حتى لا نجعل بطوننا قبوراً للحيوانات، مثلما يصنع غيرنا ممن يأكلون لحومها، ولا يتورعون لذلك عن ذبحها!

وفيما كان الاسكندر يتأمل في ما حوله في دار الرجل وقبره، وقعت عيناه على جمجمة بشرية يبدو صاحبها عابساً مغموماً، وعلى جمجمة أخرى بجانبها يبدو صاحبها ضاحكاً مستبشراً. أخذته الدهشة وسأل الرجل عنهما. فأجاب قائلاً: صاحب الجمجمة الأولى كان ملكاً ظالماً غاشماً، فلما انقضت حياته سيق إلى النار وبئس القرار، أما الآخر فكان ملكاً عادلاً رحيماً يتقي الله في رعاياه، فلما اختاره الله إلى جواره سيق إلى الجنة ونعيم الخلد!

لما سمع الاسكندر كلام الرجل الزاهد العابد، فاضت عيناه بالدمع، وقال له: تعال معي لأجعلك وزيراً لي وأشركك في ملكي. فضحك الرجل وقال له: هل أنا مجنون حتى أترك الراحة للتعب، وأبيع الجنة بالنار؟! فقال له الاسكندر: صدقت. ثم سأله أن يدعو له بالخير. وانصرف وهو يتعجب مما رأى وسمع!

وأدركت شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى اللقاء في حلقة الغد

زاهدون في نعيم الدنيا يأكلون الحشائش ويحفرون قبورهم في ديارهم

الإسكندر يطلب من الرجل الزاهد الدعاء له بالخير

ابنة البطريق تقع في حب الأسير وأمير المؤمنين يعقد قرانهما
back to top