«داعش» انهزم في «الإنترنت»

نشر في 03-06-2018
آخر تحديث 03-06-2018 | 00:07
التنسيق الدولي بين عدد من الدول الكبرى، والضغط على الشركات المسؤولة عن تشغيل مواقع التواصل الاجتماعي؛ مثل «فيسبوك»، و«تويتر»، و«يوتيوب»، أثمرا تحولاً جوهرياً، وأديا إلى إغلاق ملايين المواقع والحسابات، التي استخدمها «داعش» في بث رسائله وترويج دعايته.
 ياسر عبد العزيز لا يمكن القول إن تنظيم "داعش" انتهى، وإنه لم يعد قادراً على تهديد أمننا؛ فما زال هذا التنظيم قادراً على القيام ببعض الأدوار الخطرة التي دأب عليها منذ إطلالته الشريرة على المشهدين الإقليمي والعالمي.

يستطيع "داعش" اليوم أن يجند أفراداً، وأن يدفعهم إلى شن عمليات إرهابية، وأن يبث سمومه عبر بعض الوسائط الإعلامية، فيحرض على العنف، ويشيع التمييز، وينشر الكراهية، لكنه فقد معظم قدراته الاستراتيجية.

ولذلك، لا يمكن اعتبار أن "داعش" بات جزءاً من الماضي، أو أنه تحول من آليات ووقائع ملموسة على الأرض إلى مجرد أفكار، لكن يمكن القول إن "داعش" هُزم استراتيجياً، وأنه لم يعد بوسعه إحداث تغيير استراتيجي في مسار السياسات الوطنية والإقليمية والدولية.

ليس هذا احتفالاً بالنصر، ولكنه محاولة لفهم الطريقة التي تم عبرها إجهاض محاولات "داعش" للتحول إلى دولة ذات ارتكاز ترابي وسيادة، وإلى لاعب عالمي يمكن أن يرسي استراتيجيات، ويغير في مسارات السياسة الإقليمية والدولية.

لقد فقد "داعش" نحو 98% من الأراضي التي كان يسيطر عليها خصوصاً في سورية والعراق، بعدما اتسع نطاق سيطرته سابقاً ليشمل أراضي تعادل ثلثي مساحة بريطانيا.

مع الانحسار الترابي للأراضي التي كان يسيطر عليها "داعش" ينكمش التنظيم ويتراجع أثره، لكن الأهم أن ذلك الانحسار رافقه تراجع حاد وواضح في نطاق سيطرته الاتصالية.

لم يكن بوسع العالم أن يهزم "داعش" استراتيجياً، كما هو حادث الآن، من خلال عمليات القصف والقتال الميداني (التي كان لها أثر كبير من دون شك) فقط، لكن هذا النصر لم يكن ليتحقق من دون هزيمة "داعش" في ميدانه الأثير... الإنترنت.

هزيمة "داعش" لم تكن ممكنة من دون تقليص المساحات التي احتلها في الفضاء الاتصالي الإقليمي والعالمي، عبر استراتيجيته الشرسة للتمركز اتصالياً، وهي الاستراتيجية التي لاقت نجاحاً مبهراً مع صعود التنظيم، فلم تكن هزيمة "داعش" ممكنة من دون تقليص نفوذه الاتصالي.

يبدو أن دولاً وأجهزة استخبارات عالمية أدركت الخطر المتولد عن إتقان "داعش" لاستخدام مواقع التواصل الاجتماعي في أنشطته الإرهابية منذ سنوات؛ ففي أكتوبر من عام 2014، حل الجنرال جون آلين، المنسق الأميركي للتحالف الدولي ضد "تنظيم الدولة الإسلامية" (داعش)، ضيفاً على الكويت، لحضور اجتماع بين دول التحالف، بشأن تنسيق الجهود ضد الدعاية الإعلامية للإرهابيين.

ومن بين ما قاله الجنرال الأميركي على هامش هذا الاجتماع إن دول التحالف نجحت في تكبيد "داعش" خسائر كبيرة على مستوى العتاد والأفراد، لكنها أخفقت في مواجهته في ساحة "الإنترنت"، بعدما اعتبر أن هذا التنظيم يمتلك "ماكينة دعائية رهيبة".

امتلك "داعش" استراتيجية إعلامية متكاملة، وتلك الاستراتيجية حولت القدرات الاتصالية التي يمتلكها التنظيم إلى "أداة قتال رئيسة"، ويمكن القول إن تلك الأداة بالذات كانت الأكثر فاعلية ونجاعة بين الوسائل المختلفة التي استخدمها لتحقيق أهدافه.

أوضحت دراسات عديدة حجم المنظومة الإعلامية والدعائية التي استخدمها "داعش"، وتنوع وسائلها، وبات من المعروف أن تلك المنظومة تشكل آلية للدعاية، والاستقطاب، والتجنيد، والاتصال الميداني، والتعبئة، والتدريب، وإصدار التكليفات، وصولاً إلى تنفيذ العمليات الإرهابية.

أوضحت دراسات غربية عديدة أن 80% من الأعضاء الذين تم تجنيدهم للانضمام إلى "داعش" في أوروبا أتوا عبر "الإنترنت"، وأثبتت أن "داعش" استطاع، في فترة ازدهاره، أن يجند شهرياً أكثر من 3400 عنصر عبر حملات إلكترونية.

ويفسر نيك أوبرايان، الرئيس السابق لوحدة مكافحة الإرهاب في الشرطة البريطانية، أسباب النجاح الباهر لـ"داعش" في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، بقوله: "إنها وسيلة تكنولوجية رخيصة الثمن، ويسهل التحكم فيها، سواء من مغارة في جبال أفغانستان، أو من أي مقهى في أي مدينة، قرب حاسوب مرتبط بالأقمار الاصطناعية... فالتغريدة لا تكلف شيئاً".

بسبب إدراك "داعش" للتطورات الاتصالية التي تحكم عالمه، استطاع أن يسخر تلك التطورات من أجل توسيع نطاق نفوذه، وهو أمر لم يكن بالوسع مواجهته من دون استراتيجية عالمية بدأت نتائجها في الظهور قبل سنتين.

في ذروة ازدهار التنظيم امتلك شبكة إعلامية ضخمة ومؤثرة، تكونت من مئات المدونات، كما طور التنظيم عدداً من المنتديات الإلكترونية، التي عملت كحاضنات إرهابية واستقطبت أفراداً من مجتمعات عدة؛ مثل منتديات "النصرة الجهادية"، و"شبكة حنين"، وشبكة "الزرقاوي".

واستطاع التنظيم أن ينتج العديد من المواد الإعلامية الجيدة الصنع، والتي حظيت بانتشار وتأثير بالغين؛ ومنها مؤسسة "الفرقان"، و"الاعتصام"، و"الحياة"، و"أعماق"، و"البتار"، و"دابق"، و"أجناد"، وغيرها.

لقد أدركت الدول الكبرى أن هزيمة "داعش" لا يمكن أن تتحقق من دون تقليم أظافره على الشبكة، وهو الأمر الذي أدى إلى تعزيز مطالبات دول مثل الصين وروسيا بإخضاع الفضاء الإنترنتي لمقتضيات السيادة الوطنية.

في دراسة صدرت الأسبوع الماضي، أعلن مرصد الأزهر بالقاهرة أن "المكافحة الإلكترونية" لنشاط "داعش" على الإنترنت أثمرت تراجعاً في وجود التنظيم عبر الشبكة.

وقالت الدراسة إن إصدارات "داعش" انخفضت بشكل ملحوظ، وبات هناك قدر واضح من التأخر في إصدار البيانات، وسقطات في الترجمة، وتراجع مستوى الإنتاج فنياً بصورة واضحة، فلم تعد الصور والفيديوهات تصور بذات الجودة التي عرفتها الإصدارات الأولى للتنظيم.

لا يمكن إغفال أثر العمليات الميدانية التي استهدفت "داعش" في تفكيك قدراته الاتصالية؛ فعبر تلك العمليات تم ضرب مقار الإنتاج الإعلامي للتنظيم، كما تم حرمانه من التمويل السخي، فضلاً عن القضاء على العناصر القيادية في استراتيجيته الاتصالية؛ مثل أبو محمد العدناني، وأحمد أبو سمرة، الذي كان مسؤولاً عن مواقع التواصل الاجتماعي.

لكن التنسيق الدولي بين عدد من الدول الكبرى، والضغط على الشركات المسؤولة عن تشغيل مواقع التواصل الاجتماعي؛ مثل "فيسبوك"، و"تويتر"، و"يوتيوب"، أثمرا تحولاً جوهرياً، وأديا إلى إغلاق ملايين المواقع والحسابات، التي استخدمها التنظيم في بث رسائله وترويج دعايته.

لم تكن هزيمة "داعش" ممكنة من دون إرادة دولية، وآليات ذكية، استطاعت محاصرة التنظيم على الشبكة العنكبوتية، وحرمته من وسيلة سهلة استغلها ببراعة لنشر إرهابه.

* كاتب مصري

لا يمكن إغفال أثر العمليات الميدانية التي استهدفت "داعش" في تفكيك قدراته الاتصالية
back to top