«ليسانس الحقوق» على الحائط!

نشر في 23-05-2018
آخر تحديث 23-05-2018 | 00:02
No Image Caption
كعادته، استيقظ الشاب أيمن بعد أذان الظهر. فتح عينيه بصعوبة، وراح يبحث بيده عن علبة السجائر. التقطها وأخرج منها سيجارة وأشعلها بعدما أسند ظهره إلى السرير وراح ينفث دخان سيجارته بشراهة وعيناه مثبتتان على شهادة «ليسانس الحقوق» التي وضعها في إطار خشبي وعلقها في غرفته.
في يأس أبعد أيمن نظراته عن الشهادة التي نالها قبل خمس سنوات، ولم يستفد منها. ظلّ طوال هذه السنوات يبحث عن عمل من دون جدوى. في بعض الأحيان، كان يعمل في مهنة بعيدة كل البعد عن تخصصه الذي درسه. وكان يظل غالباً في بيته المتواضع بمدينة كفر الدوار التابعة لمحافظة البحيرة (195 كيلومتراً شمال مدينة القاهرة) بلا عمل أو مال ينفق منه.

في غيظ أطفأ أيمن سيجارته وقفز من فراشه وراح يتجول في أرجاء الشقة التي ورثها عن والديه الراحلين. كاد عقل الشاب الذي أتمّ عامه الثامن والعشرين أن يطير من رأسه. راح يبحث عن حل جذري لمشكلة عمره في أن يجد عملاً شريفاً يكسب منه قوته اليومي على أسوأ تقدير.

دفاتر قديمة

ومثلما يفعل التاجر اليهودي عندما يعلن إفلاسه، راح أيمن يفتش في دفاتره القديمة. جلس في صالة الشقة يسترجع شريط الذكريات كاملاً من البداية حتى وصلت به الحال إلى ما هو عليه الآن. وعند مشهد من مشاهد الذكريات في مشوار حياته توقف أيمن طويلاً حيث كانت لقطة تفوقه في الرسم منذ نعومة أظفاره. وظل هذا المشهد الذي يؤكد الغرام القديم لهواية الرسم لا يبارح تفكيره. وسأل الشاب البائس نفسه سؤالاً محدداً:

- «كيف يمكن أن أستفيد من هذه الموهبة؟ ».

لم يوافق أيمن على الإجابات المنطقية التي قفزت إلى ذهنه وقتها، لأنها ببساطة كانت ستعيده إلى الجملة المتكررة التي أصبح يكره سماعها «البحث عن عمل يناسب هذه الموهبة »... ولكن فجأة لمعت عينا الشاب عندما اقتحمت فكرة رأسه وكانت تدعوه إلى استغلال موهبة الرسم في التزوير!

راقت الفكرة للشاب البائس وكأنه يقرر الانتقام من كل سنوات عمره التي ضاعت في البحث عن عمل شريف يكسب منه بالحلال. جلس أيمن يفكر بعمق أكثر. وبعد دقائق كانت الأفكار تتلاحق في رأسه وتدعوه إلى استغلال موهبته المدفونة في الحصول على أكبر قدر من المال ما دام طريق الحلال أصبح مسدوداً إزاءه.

بداية الطريق

كانت بداية طريق الحرام عندما نجح أيمن في تقليد خاتم شعار الجمهورية بدقة متناهية ووضعه على رخص قيادة السيارات لمن يريد!

لم يكن يجد مشقة في البحث عن زبائنه، خصوصاً أن كثيرين يسعون إلى الحصول على هذه الرخص المزورة كي يتفادوا دفع رسوم المخالفات الباهظة التي تفرض عليهم أثناء تجديد رخصهم في نيابات المرور.

ونجحت أولى خطوات أيمن في عالم التزوير، وذاع صيته وتدفق عليه كثير من الناس الراغبين في الحصول على أوراق رسمية مزورة.

ويوماً بعد يوم، ودّع أيمن حياة الفقر وإحساس الإحباط الذي عاش فيه سنوات طويلة، وجمع مبالغ طائلة من موهبته التي لم يستغلها سابقاً. وبدأ الشاب يطوِّر من أدائه ويبتعد بمرور الوقت عن تزوير رخص السيارات ورخص القيادة ويتحوّل إلى تزوير شهادات الحيازة الزراعية، والتي كانت تمنح الحاصلين عليها ميزة الحصول بهذه الشهادات على قروض كبيرة من بنك التسليف الزراعي.

وحدَّد أيمن تسعيرة تلك المحررات أو الشهادات: الشهادة الواحدة بمبلغ 500 جنيه. وتهافت المزارعون على بيته للحصول على تلك الشهادات التي كانوا يقدمونها للبنك الزراعي ويحصلون من خلالها على قروض بآلاف الجنيهات، والغريب أن موظفي البنك لم يشكوا للحظة في أن تلك الشهادات مزورة لدقتها الفائقة.

تبدّل الأحوال

لم تمض أشهر قليلة حتى تبدّلت أحوال الشاب أيمن 180 درجة.

أصبح للمزور الشاب رصيد كبير في البنك، واشترى سيارة فاخرة وانتقل ليقيم في مدينة دمنهور في شقة أوسع وإن احتفظ بشقته القديمة في كفر الدوار لاستغلالها في عمليات التزوير التي يقوم بها. ومرّت الأيام حاملة السعادة للشاب المزور بعد سنوات من العذاب والشقاء، من دون أن يخطر بباله لحظة أن النهاية قادمة لا محالة.

في مكتبه بمديرية أمن البحيرة، جلس العقيد يحيى أبو غزالة وكيل مباحث الأموال العامة يستمع إلى أقوال أحد المتهمين والذي ألقي القبض عليه أخيراً وفي حوزته رخصة قيادة تبين أنها مزورة. لم يبذل ضابط المباحث مجهوداً كبيراً في معرفة من قام بعملية التزوير، إذ انهار المتهم واعترف بأنه اشترى الرخصة المزورة من شخص يدعى أيمن بمدينة كفر الدوار .

ضابط المباحث رغم حصوله على معلومات كافية عن المزور الشاب أيمن، فإنه فضل أن يجمع تفاصيل أكثر عن المتهم، خصوصاً أن الضابط بحاسته السادسة كان واثقاً في أن أيمن يزوِّر محررات أكثر خطورة من مجرد رخص القيادة.

فعلاً، لم تمض أسابيع قليلة حتى كانت تحريات رجال المباحث التي وضعوها على مكتب وكيل مباحث الأموال العامة تؤكد أن أيمن تخصص في تزوير شهادات الحيازة الزراعية وأنه باع كثيراً منها بمبالغ طائلة... كما أفادت التحريات أن المتهم زوّر سجلات تجارية لعدد كبير من الأشخاص.

كشف المزوِّر

حصل وكيل مباحث الأموال العامة على الإذن من النيابة العامة بإلقاء القبض على المزور الشاب أيمن، وتفتيش مسكنه. انطلق إلى منزل المزور الشاب في كفر الدوار في ساعة متأخرة من الليل وتمت مداهمة الشقة حيث عثر هناك على مجموعة كبيرة من شهادات الحيازة الزراعية المختومة بشعار الجمهورية «على بياض» في انتظار أن يدون بها اسم وبيانات صاحبها. كذلك مجموعة أخرى من السجلات التجارية، وكمية كبيرة من الأختام التي يستخدمها المزور الشاب في جرائمه.

في هذه اللحظة، لم يحرك أيمن ساكناً.

تأكد المزور الشاب أنها النهاية وأن أيام السعادة التي عاشها في طريق الحرام انتهت وعليه أن يدفع الثمن. وفعلاً أحيل المتهم إلى النيابة واعترف بجرائمه فقرر وكيل النائب العام إحالته إلى محكمة جنايات دمنهور التي عقدت جلساتها برئاسة المستشار محمد شعيب وعضوية المستشارين أحمد أبوالفتوح وعماد خالد.

في قفص الاتهام

من داخل قفص الاتهام وقف المزور الشاب أيمن يدافع عن نفسه بكل ما أوتي من قوة... اتهم الظروف والأحوال الصعبة التي دفعته إلى خوض تجاربه في طريق الحرام. راح يشكو من عدم حصوله على فرصة عمل شريفة واحدة طيلة خمس سنوات، مؤكداً أنه الضحية وأن ثمة آخرين يتحملون الوزر بأكمله، هؤلاء الذين رفضوا أن يمدوا له يد العون وأن يلحقوه بأي عمل شريف.

واستمعت هيئة المحكمة إلى دفاع المتهم الشاب عن نفسه، ولكن رئيس المحكمة رد على المزور بكلمات مقتضبة فنّدت مزاعمه، إذ أكّد أن الظروف الصعبة لا يجب أن تكون «شماعة» يعلق عليها المجرمون أعمالهم وانحرافهم، وأن طرق الحصول على المال الحلال أكثر بكثير من طرق الاحتيال والنصب. وفي نهاية الجلسة أصدرت هيئة المحكمة قرارها بمعاقبة المتهم بالسجن المشدد ثلاث سنوات.

الملابس الزرقاء

يقولون: يوم السجن بألف يوم! لكّن المزور الشاب أيمن الذي ارتدى ملابس السجن الزرقاء كان يشعر بأن يوم السجن بألف سنة! جلس في زنزانته يندب حظه التعيس الذي أسقطه في قبضة رجال مباحث الأموال العامة في نفس اللحظة التي صالحته فيها الدنيا بعد خصام طويل. فمن سخريات قدره أنه يوم إلقاء القبض عليه كان جمع مبلغاً كبيراً يؤمن له حياة سعيدة بالفعل.

استغل أيمن سنوات السجن في دراسة الأخطاء التي قادته إلى هذه الزنزانة التي لا يستحقها. كان فعلاً شديد الذكاء وسريع التعلم... ولكن للأسف لم يستغل ذكاءه وسرعة استجابته للتعلم إلا في طريق الانحراف... وبعد تفكير طويل قرر أيمن أن يستغل ذكاءه ومواهبه بمجرد خروجه من محبسه وأن يكون أكثر حرصاً في المرات المقبلة كي لا يعود إلى السجن مجدداً.

ومرت سنوات السجن الطويلة، خرج بعدها أيمن إلى الحياة من جديد، وكان أول ما فعله أن تخلّص من كل شيء يربطه بماضيه في مدينة كفرالدوار أو مدينة دمنهور. باع ممتلكاته وقرّر أن يبدأ نشاطه وحياته الجديدة في القاهرة حيث الزحام والصخب .

في أحد الأحياء الشعبية، افتتح أيمن مكتب استشارات عقارية ليبدأ من خلاله رحلته الجديدة في عالم الجريمة... النصب!

استغل أيمن دراسته القانون وأيضاً مهارته في التزوير وبدأ في تحرير عقود البيع والشراء المزورة لزبائن مكتبه من أبناء الحي الشعبي بعدما أوهمهم بقدرته على جلب شقق بأسعار زهيدة من المحافظة، خصوصاً تلك الشقق التي تعلن الحكومة تنفيذها للشباب والعرائس والعرسان.

وحصل أيمن على مبالغ طائلة حصيلة العقود التي زورها، وقبل أن ينكشف أمره اختفى عن العيون تاركاً ضحاياه يصرخون على أبواب محافظ القاهرة ويقدمون له العقود كي يستلموا شققهم، وطبعاً كانت صدمتهم الهائلة عندما اكتشفوا أن العقود التي دفعوا فيها مبالغ طائلة مزيفة وأنهم جميعاً سقطوا ضحية نصاب محترف.

الاعتراف

لم يكتف النصاب المزور أيمن بآلاف الجنيهات التي جمعها من ضحاياه قبل أن يختفي ويتوجه إلى إحدى القرى النائية التابعة لمركز البدرشين بمحافظة الجيزة، حيث مارس هوايته في جمع أموال المواطنين هناك بحجة توظيفها ومنحهم فوائد أكبر بكثير من فوائد البنوك!

وكالعادة، جمع أيمن عشرات الآلاف من جنيهات المزارعين واختفى، تاركاً ضحاياه يصرخون في مديرية أمن الجيزة ويدلون بأوصاف النصاب الذي خدعهم واستولى على أموالهم!

بمرور الوقت، أصبح النصاب أيمن صداعاً في رأس رجال الأمن في مديريتي أمن القاهرة والجيزة الذين اتخذوا قرارهم الحاسم بوضع حد لكل جرائم هذا النصاب الخطير.

ولم تمض أشهر حتى نجح رجال الأمن في الإيقاع بضالتهم المنشودة. سقط أيمن في قبضة رجال الشرطة وأحيل إلى النيابة حيث اعترف بكل شيء. فتقرر إحالته محبوساً لمحاكمة عاجلة أمام محكمة جنايات الجيزة التي عقدت جلساتها برئاسة المستشار أحمد سعد وعضوية المستشارين محمد نصار وحسام الشافعي وأمانة سر محمد علي.

واعترف أيمن باستيلائه على مبلغ يقارب الثلاثة ملايين جنيه من ضحاياه حصيلة خداعهم وايهامهم بقدرته على توظيف أموالهم، ومنحهم فوائد كبيرة تفوق الفوائد التي يحصلون عليها من البنوك التي يودعون فيها مدخراتهم. كذلك أقرّ المتهم إزاء هيئة المحكمة أنه سبق وباع عقوداً مزورة لشقق الشباب التي أعلنت الحكومة عنها للعرائس والعرسان، إذ أوهم ضحاياه بأن مجموعة من العرسان قررت بيع هذه الشقق قبل استلامها من محافظة القاهرة بنصف سعرها الأصلي وزوّر العقود وباعها لضحاياه!

وإزاء اعترافات المتهم التفصيلية بجرائمه قضت هيئة المحكمة بمعاقبة النصاب المزور بالسجن المشدد 7 سنوات والتحفظ على أمواله وردها إلى الضحايا الذين انخدعوا في مظهر ودراسة المتهم للقانون.

ويتلقى أيمن قرار المحكمة بابتسامة ساخرة وكأنه يقول:

«السجن من جديد. إنها فترة جديدة لدراسة الأخطاء التي وقعت فيها أيضاً»!

ثلاث سنوات سجناً لم تكن كافية للمزور الشاب

خرج من السجن ليتحوّل من مزور إلى نصاب محترف

استغل أيمن دراسته للقانون ومهارته في التزوير وبدأ تحرير عقود البيع والشراء المزورة

تلقى قرار المحكمة بسجنه بابتسامة ساخرة
back to top