لا يحرم من جنته أحداً!

نشر في 17-05-2018
آخر تحديث 17-05-2018 | 00:00
 مسفر الدوسري لم يتوقف الشعر عن إدهاشي منذ وجدني متسكعاً على أرصفة الكلمات بانتظار لقمة تسد رمق القلب والعقل معا، فالتقطني حينها في آخر مقطورة من عربته السحرية، منذ ذلك الحين وعربة الشعر تدور بي في عالم لا يكاد يشبه العالم الحقيقي إلا بالأسماء، شجرة من الكريستال تتنفس الأغاني، نجمة من السماء تنحني لتلقط من الأرض ظل زهرة، حبة رمل تبتكر زورقا نهريا، سمكة تخيّم في الربع الخالي كل فصل ربيع! دهشة تلو أخرى مازالت تغمرني برخائها، وكلما ظننت أن دهشة الشعر بلغت بي أقصاها فاجأني بعدها بحين بدهشة جديدة، آخر دهشة أهداني إياها منذ أيام قليلة حين دُهشت بعدالة الشعر، إن الشعر مثال للعدالة المتطرفة!

وتبدو لنا عدالته غريبة الأطوار، فهي خالصة نقية حدّ التشبّه لنا، فطنة حدّ السذاجة، حكيمة حدّ "الهبل"، عدالة لا تقف عند الحقيقة المجردة التي تقودها حجة إقناع تسمى المنطق، وإنما تتخطى ذلك باتجاه "شيء ما غامض" لنا، بينما يبدو الشعر على معرفة تامة به، ونصفق لمنطوق حكمه اعجابا ودهشة وتصديقا رغم عدم معرفتنا بذلك "الشيء الغامض" الذي استندت إليه حيثيات حكمه! كرامة لم تتأت لأحد قط إلا للشعر، استرجعت قصائد من الذاكرة خاضت في "التابوهات" الاجتماعية ونالت اعجاب المجتمع وأثار دهشته جمال شعري فيها متجاهلا بعينه الأخرى ما حُطم من سور محرماته، "قل لمن يدّعي في العلم فلسفة... حفظت شيئا وغابت عنك أشياء" هذا أحد أبيات قصيدة تناقلتها قوافل الشعر عبر الأزمان رغم كم "التابوهات" الاجتماعية بل والدينية الذي احتوته القصيدة، وهذه القصيدة بالمناسبة ليست استثناءً، فالأدب العربي القديم والمعاصر في جعبته الكثير من القصائد التي كان لعدالة الشعر فضل في حمايتها رغم تضادها مع مفاهيمنا ومنطقنا ورميها للحجر في مياه صلحنا الذاتي الراكدة وإفزاعها لهدأة بالنا، للشعر قدرة سحرية على فعل ذلك بنا بفضل عدالته تلك، فكثير ما حفظنا قصائد لا نتفق مع مضمونها، ولكننا أعجبنا بجمال الشعر فيها، فالشعر لا يوزع جماله على القصائد طبقاً "لتابوهاتنا" ومحرماتنا المعدة سلفاً، ولا اتساقاً مع منطقنا العقلي الذي نظنه صالحاً للاستخدام اليومي، وله القدرة على أن نصنف بعض القصائد المتمردة علينا ضمن أجمل ما قيل شعراً، استطاع الشعر أن يمررها بداخلنا من باب جمال ليُسكنها بنا ويوطنها أرواحنا، يوزع الشعر جماله على القصائد بالتساوي، لا يهم بالنسبة للشعر إن كان المتغزّل به في القصيدة أنثى أم ذكرا، فائقة الجمال مثيرة للكلمات، أم عادية لا تثير شهوة طرف، فكم من حبيبة قال الشعر إنها فريدة زمانها وصدقنا ذلك كحقيقة لا نريد لها نقضاً رغم الروايات المتناقضة حول تلك الحقيقة، وكم من وضيع ارتفع بجناحي قصيدة، وعتمة استطاع الشعر أن يكتبها في ذاكرتنا بحروف من نور، يمنح الشعر جماله للكل بلا استثناء، الجميلات وغير الجميلات، النبلاء وقطاع الطرق، الكرام والشحاذون، ذوات الخدر وبائعات الهوى، والرموز الدينية وإناء الخمر، لم يردّ كفّا مُدّت إليه خائبة من عطائه، كل الشرائع السماوية والأرضية لا تساوي في مكافآتها للجميع مذنبا كان أم جانياً، بينما يفعل الشعر ذلك، لا يحرم من جنّته أحداً!
back to top