حبر و ورق

نشر في 12-05-2018
آخر تحديث 12-05-2018 | 00:02
No Image Caption
أبدلتني بقلب آخر

أنا غارق في سكرة نومي اللذيذة، رنّ منبّه الجوال بصوته المقيت الذي أكرهه، صوت مستفز وموتر للأعصاب يشعرني وكأنها نهاية العالم، ألقي نظرة كسولة على ساعة الحائط أمامي، أجدها تشير إلى الساعة السادسة.

يجب أن أنهض لعملي، أخرج ذراعي من تحت رأسي لأطفئ المنبه فتسقط ذراعي مجدداً. أحس بتنميل شديد فلا أستطيع أن أحركها، يبدو وكأن الدم تجمد في عروقي. أمهلها خمس دقائق كل يوم حتى تعود للحياة من جديد قبل أن أشرع في استخدامها، وطوال الخمس دقائق أنا مضطر لأن أسمع صوت المنبه البغيض.

ما أن تنتهي مدة الإنعاش وتدب الحياة في ذراعي مجدداً، حتى أمدها، وأغرس أصابعي بشراسة في بطن الهاتف لأخرسه!

أستفتح صباحي بشطيرتين من البيض المقلي بالزبدة مع الجبنة السائلة والمايونيز وبعض الكاتشب، وألتقط زجاجة الكولا الباردة من الثلاجة لكي أدفع بها لقماتي.

آه ما أجمل الطعام، إنه بالنسبة إليّ كذراع حانية تحتضنني، وصديق وفي لم يخذلني قط، وكلما احتجت إليه وجدته بالشكل الذي أشتهيه ويرضيني.

أصل إلى مقر عملي، ثم تأتي مهمة البحث عن مكان لأركن سيارتي فيه. في الحقيقة أرض الله واسعة وهناك أماكن عدة، لكن المكان الذي أبحث عنه هو مكان لا يضطرني للمشي خطوات عدة. أحب أن أجد لنفسي مكاناً ما، أن أضع قدمي من السيارة حتى يصبح بإمكاني إدخال قدمي الثانية داخل الشركة.

أنا أقسم الأيام إلى يوم السعد ويوم التعس من خلال مواقف السيارات؛ فعندما أجد موقفاً قريباً يتناسب مع مواصفاتي ولا يجعلني أبذل مجهوداً وأمشي كثيراً فهو يوم سعدي، وعندما يضنيني البحث ولا أجد إلا موقفاً بعيداً فأضطر أن أركن سيارتي فيه كي لا أتأخر عن عملي، وأمشي خطوات كثيرة وأدخل وأنا بالكاد أسحب أنفاسي جراء الخطوات الطويلة التي قطعتها، فهو يوم تعسي. لكن بفضل الله أيام سعدي أكثر بكثير من أيام تعسي.

أصل مكتبي وأرمي بجسدي الثقيل على الكرسي فيصرصر ويهتز وينتفض وكأنه سيلفظ أنفاسه الأخيرة. اعذرني يا حبيبي فتانك الخطوتان أنهكتاني.

ما إن تهدأ نبضات قلبي وتنتظم أنفاسي حتى أتصل بعم عبده؛ عم عبده رجل مسن ذو بشرة سوداء لامعة وابتسامة لطيفة، ما إن يبتسم في وجهك حتى ينتابك شعور أن الدنيا، كل الدنيا، بخير. يداه النحيلتان ذواتا العروق البارزة تعدان لنا كل صباح ألذ قهوة في العالم، تفوح رائحتها الزكية في كل أرجاء الشركة. كنت أنا أكثر من يتعبه لأنني أطلب منه قهوة أمريكية بالحليب، سكر زيادة، أو كابوتشينو بالكاراميل، فيضطر لأن يعد قهوة أخرى غير القهوة العربية لفخامتي كل يوم حسب رغبتي.

دائماً ما كان يقول لي: مالك ومال قهوة الأجانب يا ولدي! أشرب قهوة عربي مع المسلمين أحسن لك. فأرد عليه ممازحاً: أحسن لي ولا أحسن لك وأوفر لك أنت يا عم عبده؟! عادي خلينا نحلل راتبك شوية. يضحك ويضع أمامي كوب قهوتي بكل رحابة صدر وخفة روح، ويودعني ببشاشته الرائعة.

ما إن يخرج حتى أفتح درج المؤونة بجانبي الذي أخبئ فيه مفرحاتي من الشكولاتة والحلوى حتى أتناولها مع قهوتي كتصبيرة حتى موعد الغداء.

الحب؟

لم يطرق الحب باب قلبي قط ولا أظنه سيفعل، كما لم أتجرأ أنا على فعل ذلك!

كلما شاهدت جسدي المكتنز في المرآة قلت لنفسي: يا ولد، معقولة في وحدة ممكن تفكر فيك ولا تلتفت لك ولا تجيب خبرك حتى وأنت بالشكل هذا؟!

ثم يردد صوت منخفض رحوم في داخلي يدافع دائماً عني كلما رآني أهم بجلد ذاتي: الجمال جمال الروح يا هيثم، مو مهم الشكل. أهم شي أنت طيب وقلبك نظيف ودود وجوهرك أصلي.

ثم يقاطعه صوت نحيس بداخلي يحب أن يجرح مشاعري ويحقرني دائماً: بالعكس يا حبيبي، الناس مالها إلا الظاهر. الناس في الأغلب تعيش مع شكلك أكثر من روحك وجوهرك الذي لن يكتشفه الناس إلا عند المواقف التي تظهره.

فما حاجة فتاة حسناء بجوهرك إذا كنت مستلقياً ونائماً بجانبها كفقمة بحر نافقة على الشاطئ بحجمك الكبير وصوت شخيرك المزعج، وأنت تصارع لتحصل على نفحة هواء لتنفثها مجدداً لكي تحافظ على بقائك حياً؟

أصم أذنيّ عنهما وأتركهما يتصارعان، بينما أذهب لأبحث لنفسي عن غداء. سؤال اليوم وكل يوم، بل سؤال كل دقيقة: ماذا آكل؟

أنا إنسان سموح الطباع، قنوع وراضٍ بكل ما هو يسير، إلا عند الطعام، فلا يرضيني يسيره أبداً.

أحب أن أنهض من وجبتي وأنا أشعر بالدوار من التخمة، عندها فقط أحس أنني أكلت فعلاً، وأديت واجبي على أكمل وجه.

ما عدا ذلك لا أحس إنني أكلت، وأظل طوال اليوم حزيناً على نفسي الجوعى، أحاول تعويضها بأكل كل شيء أمامي وكل شيء تقع عليه عيناي.

( 2 )

أعود إلى المنزل آخر الظهيرة، بعد نهاية يوم مرهق في العمل، منهكاً وخائر القوى، رغم أن جل ما قمت به هو الجلوس على الكرسي ثماني ساعات تخللها توقيع ومراجعة بضع ورقات.

أدخل الصالة، أجد والدتي جالسة ونظارتها تقف في منتصف أنفها، تطالع رسائل الواتس أب وتضحك. ما إن تراني حتى تناديني وهي تضحك بحماس: تعال يا هيثم شوف بسرعة، والله الناس ما هم صاحين، ما خلوا أحد في حاله.

ألقي بنفسي جانبها، وأسند رأسي إلى كتفها لأشاهد. وإذا هو كالعادة مقطع فيديو عتيق سبق لي وأن شاهدته منذ سنوات.

أقول لها ضاحكاً: يا أمي الفيديو هذا قديم، من عام الفيل!

ترمقني بنظرة غاضبة من تحت نظارتها ثم تقول لي: وأنت كل ما أوريك حاجة تقول لي قديمة؟

ما تعرف تجاملني مرة وتضحك وتقول أول مرة أشوفه!

ثم تفتح هاتفها وتنبش بين الرسائل وهي تضحك وتقول: طيب شوف لي هاذي النكتة، أتحداك إذا كنت شفتها من قبل!

أقرأ النكتة ثم أضحك ليس على النكتة طبعاً لكن لأنها قديمة أيضاً، ثم أقول لها بتهكم: حتى هاذي قديمة ومن عام الفيل برضو. ما تعرفي تجيبي حاجة جديدة يلله حظاً أوفر لك في المرات القادمة يا أمي، خلينا من النكات الحين وحطي لي الغداء لأني ميت جوع!

تزيح نظارتها عن وجهها ثم تقول: ما تضحك على نكاتي وكمان تبغى أحط لك غدا؟ ما في غدا قوم عن وجهي.

عند الرابعة عصراً يرن هاتفي. طبعاً لا داعي لأن أخمن من المتصل، فهو صديقي المزعج خالد العاطل عن العمل، المتكفل بإيقاظ الموظفين من قيلولتهم..

أجيبه وأنا نصف نائم: أيوه يا خالد.

خالد: أنت لسا نايم يا دب؟! يلله قوم راح أمر عليك بعد شوي معزومين على شاليه، ولا تنسى تجيب معك ملابس سباحة يا فرس النهر.

الدب، فرس النهر، الخرتيت، هذه هي ألقابي المشهورة بين أصحابي. في الحقيقة لا أحسبها سخرية أو استهزاء أبداً فقد أصبحت جزءاً مني واعتدت عليها تماماً حتى أصبحت أكاد أنسى اسمي الحقيقي.

يقف بنا خالد عصر كل يوم عند ستاربكس ليأخذ كوب قهوة كاراميل مكياتو، على حد قوله لا يكتمل يومه إلا به. لكن كلاًّ منا، أنا ومراد وفيصل، نعي جيداً أنه يتعمد الوقوف في هذه الساعة المعينة من كل يوم، ليس لأجل الكاراميل مكياتو، بل لأن الرابعة عصراً يقف باص الفتيات القادمات من الجامعة، لينزلن ماكدونالدز المجاور لستاربكس ليتناولن غداءهن قبل العودة إلى المنزل.

فهو يزامن موعده معهن عمداً لينزل من سيارته أثناء نزولهن مرتدياً تيشيرت بلا أكمام، ليكشف عن كتفيه المنتفختين من العضلات ويرى لمعة الإعجاب في أعينهن وهن يتغامزن ويتهامسن عند مروره بجانبهن. يأخذ كوب قهوته ثم يقف عند الباب يحتسي قهوته بتبختر وخيلاء واضعاً نظارته الشمسية على طرف أنفه حتى تظهر عيناه. وما إن تمر من أمامه فتاة حتى يغمز لها وهو يعض طرف كوب القهوة حتى يدوخها بين غمزته وعروق يديه البارزة التي تحمل كوب القهوة، ولونه البرونزي الذي قضى الصيف كله مستلقياً على رمال الشاطئ الحارة حتى تصبغه بالبرونزي الذهبي الذي تحبه الفتيات، وترى فيه مكمن الرجولة.

دائماً ما أقول له لو كنت لا أعرفك ورأيتك بهذا الشكل أمام ستاربكس، وأنت تحتسي قهوتك، سأقول حتماً هذا الشاب من الطبقة المخملية والهاي كلاس. فمن يرى ملابسك واهتمامك بمظهرك لا يصدق أنك عاطل عن العمل ودرويش تعيش بين السلفيات والديون..

يجيبني بلامبالاة: تعلم يا باشا العمر مرة وحدة.

في الحقيقة لا أعرف ما الذي يجب عليّ تعلمه بالضبط؟ أن أتعلم خداع الناس وأجعل من نفسي شخصاً ليس أنا في الحقيقة، أم أمتع نفسي وأسرف في الملابس حتى لو كنت لا أملك شيئاً وأكبل نفسي بالديون؟

أنا لا أنكر أن أسلوب حياته يعجبني، وكذلك استمتاعه بكل شيء. فبالرغم من أنه عاطل عن العمل إلا أن حياته ممتعة ويتخللها الكثير من الأحداث والعلاقات والنشاطات فلا يعرف الروتين طريقاً لحياته أبداً.

لكن كل ما أعرفه هو أنه مهما طالت المتعة لا بد أن يدفع الشخص ثمن كل شيء قام بتجاهله وتأجيله.

فبينما يقوم خالد بمعاكسة النواعم أتوجه أنا إلى ماكدونالدز حيث تطلب النواعم غداءهن، لكن ليس لي هم كخالد، فأنا غرضي شريف وحلال تماماً. أذهب لأحصل على ثلاثة تشيز برجر، وحفنة من البطاطس المقلية لكي أتسلى بها في الطريق كوجبة خفيفة ولطيفة تصبر معدتي حتى وقت الوجبة الأخرى. فما شأني بستاربكس؟ فلست من عشاق القهوة كخالد. أو بالأحرى لماذا أقوم بشراء كوب قهوة يتيم لا يسمن ولا يغني من جوع ويعادل سعر ثلاثة ساندويتشات من البرجر، برأيي يجب على المرء أن يستخدم عقله ولا ينخدع بمثل هذه الأمور.

حصل معي مرة شيء غريب! في الحقيقة ليس خالد وحده من تغازله الفتيات، فبالرغم من أنني لا أسعى للفت الانتباه أبداً بل لو كان بإمكاني أن أصبح شخصاً مخفياً لن أتردد في ذلك. مرة عندما كنت خارجاً من ماكدونالدز نغزت إحدى الفتيات صديقتها وأشارت عليّ قائلة: شوفي شوفي الدبدوب الكيوت يجنن، خدوده تتأكل أكل.

كدت أذوب في مكاني! للمرة الأولى أحس بشعور خالد. في الحقيقة، هو شعور يستحق كل ما ينفقه من مصاريف ليحظى بمثل هذه الكلمات الرقيقة من الجميلات.

لكن صديقتها عديمة الذوق أفسدت فرحتي عندما قالت لها: مين؟! الدب هذا؟! والله ما أدري كيف تشوفين أنتي؟! وجه كله خدود ما فيه معالم أبداً كأنه جيلي فيش!

أجبتها في داخل نفسي: الجيلي فيش أنتي وأشكالك يا حيوانة!

الجدير بالذكر أنني عندما عدت إلى السيارة، وتذكرت كلام الفتاة التي تغازلني، لم أستطع أن آكل البرجر وانسدت شهيتي فجأة.

لي وتر ضائع

«وكأن الشتاء لم يطرق بابها، وكأنها لم تغتسل يوماً برذاذ المطر، لكثرة ما أشرقت الشّمس في عينيها أمسكت كرة الجمر فظنّوا أنّها تمسك القمر».

هي مريم، فتاة طالما انتظرت المطر برأسها العاري وارتدت الشّمس خماراً في الأيام القائظة لتختبر الفرق ما بين الحرية والجنون. لكن مريم كانت تعرف جيداً أن انتصار الحرية يعني الجنون في كثير من الأحيان.

كيف لفتاة مثلها من عائلة معروفة ومحافظة أن تشهر سيفها في وجه الجاهلين والمنافقين، الذين يلوكون الشعارات البالية ويقولون دائماً ما لا يفعلون!

الندم ضريبة ندفعها غالباً لأننا صمتنا على حساب قناعاتنا وأفكارنا، لأننا لم نمتلك الجرأة الكافية في وقت معين لنقلب الطاولة على ضعفنا واستسلامنا، لنغسل قلوبنا من رواسب عمر قضيناه في قول كلمة «نعم»، لأن النعم في قاموسهم تعني الاحترام والأدب والأخلاق الحميدة.

من يعيد عقارب العمر إلى الوراء الآن؟ من يفتح الطرقات المغلقة للأحلام؟

لم تعد مريم تخشى العواصف المقبلة، فعمرها لم تحركه سوى العواصف، عواصف الحب، الأمل، الخيبة، الفقدان والنسيان، عواصف كانت تقتلع منها شيئاً في كل مرة، لكن مريم اعتادت أن تلملم نفسها، تجمع شتات أجزائها وتنهض من جديد.

كيف تصنّف امرأة تحول كرات الجمر بين يديها إلى أقمار، وتعبث مع قدر يتلذذ بكيدها؟! مريم تستمتع بتلك العبثية، فالحياة إن لم نقتلع أشواكها من صدورنا سنموت بها، فاستسلامنا طريق نهايتنا.

تستيقظ مريم على صوت المنبه، إنها الرابعة فجراً تنهض دون تكاسل، تغسل وجهها وتبدأ بمراجعة تلك المواد الصّعبة فهذا الامتحان سيكون مفصلياً، إمّا أن تقبل بعده في كلية الطّب، وإمّا عليها البحث لأحلامها عن مأوى آخر وما لحلمنا الأساس سوى مسكن واحد يطيب له وما عداه بدائل تثقل علينا العمر والوقت...

تقترب السّاعة من السّادسة والنصف ويبدأ قلبها بالخفقان، إنها تسمع دقاته المتسارعة، اللاهثة كما لو كانت تتسلق جداراً عالياً، هو في الحقيقة جدار القلق والخوف الذي كان يعلو داخلها بوتيرة سريعة مع اقتراب الامتحان، رأسها ثقيل يوشك على الانفجار كبركان هائج.

يأتي سائق التاكسي ليقلها إلى الجامعة، فتشعر برغبة في التراجع وتفضل لو تندس ثانية في فراشها الدافئ وتنسى كل ما يخص كلية الطب ومتاعبها. لكن صوت والدها يأتي ليذكرها بأن لحظات التّعب سريعة النّسيان فور نيل مرادنا وبأن نجاحها سيكون فخراً ونجاحاً لكل العائلة وهو يثق بها، فتمشي مودعةً وترمي بحملها وهواجسها هناك. من السّهل على الأهل أن يحلموا ويتمنوا، فالأحلام لا تكلفهم أكثر من نوم عميق مريح، أمّا ضريبة تحقيق الحلم فيدفعها الأولاد تعباً نفسياً وجسدياً، له تبعات يصعب تحملها أحياناً ولا يجدي الحديث عنها. مريم تعرف جيداً ما معنى أن تجهد لهدف ما وكيف يكون طعم النّجاح ذا سكر زائد دائماً.

أسبوعان آخران وتقف مريم أمام مستقبلها القادم، ورقة معلّقة على حائط الجامعة، ومئات الطّلبة يتدافعون لمعرفة نتائجهم. هي تكره التّدافع وترى فيه إهانة لها، فقد اعتادت أن لا تهين نفسها لأي سبب. تقف بعيدة نوعاً ما محاولةً أن ترى شيئاً ولكن عبثاً، وإذ بأحدهم يطبطب على كتفها وتسمع صوتاً يقول: «هل تريدين معرفة نتيجتك يا آنسة؟»، فتتلفت جانباً ليقع نظرها عليه وهي تجيب نعم في الوقت عينه، تمعن النظر إليه وهو يسألها عن اسمها ويقلب ورقة في يده، وإذا بقلبها يزداد خفقاناً ويداها تبدآن بالارتعاش. اسمي مريم، مريم النجار.

يخيل إلى مريم أن الزّمن وقف فيها فترة ما وأن ما يشبه حقلاً مغناطسياً قد لفها وهي فيه عاجزة عن الحراك أو التّفاعل، تتحسس خلاياها المسلوبة فقط، تدغدغها رائحة عطر أدخلتها إلى دهاليز الرّجولة بجسارتها، ثقتها، احتوائها ورومانسيتها، أيقظت داخلها رغبة جامحة في الارتماء في أحضانه وكأنها وجدت ضالتها من الحب فجأةً، لكن صوته يوقظها، مبارك مريم اليوم تنضمين إلى قافلة المتعبين، وتلمع عيناه الخضراوان، وتنير وجهه ابتسامة آسرة مريحة تشعر معها أنك تعرفه منذ زمن، وإذا به يشدّ على يدها ويقول: «تشرفت بمعرفتك يا مريم، أنا الدّكتور عمر وأنا جاهز لأي مساعدة في المستقبل، ألف مبارك مجدداً»، ويمضي بخطوات واثقة وهو ينظر نحوها بين الحين والآخر بابتسامته اللّطيفة وقلب مريم يمضي معه.

لم تنم مريم تلك الليلة ولم تلهها احتفالات العائلة بها وكل تلك الوجوه التي شاركتها في فرحتها عن التفكير فيه، راحت تتململ في فراشها سائلة نفسها: «كيف تأتينا الأفراح دفعة واحدة؟ كيف نحب هكذا من دون مقدمات؟ أهو حب فعلاً، أو ذاك الإعجاب الذي سيزول بعد حين؟ لكنها متيقنة أنها لا تحبه فحسب بل هي تعشقه، ربما لأنها كانت مستعدة دائماً أن تحب رجلاً يشبهه تماماً، يشبهه بوسامته الطاغية، بخفة ظله الواضحة وبلطافته الآسرة. راحت المشاعر تتدافع داخلها والارتباك يعصف بكيانها، فحياتها قبل رؤيته شيء وبعد رؤيته شيء آخر! هكذا أقله شعرت وكأن القدر كان كريماً جداً هذه المرة ولن يكسر خاطرها في الحب كما فعل دائماً، فهل تجرؤ على الفرح إلى هذا الحد وهي التي طالما خافت من تهيئة أفراحها مسبقاً؟

الصّبر هو كل ما تحتاج إليه لتنتظر وتجعل أيامها تمر إلى حين بدء دوامها في الجامعة، آملةً أن تراه مجدداً أو تعرف شيئأ عنه. ماذا فعل بها هذا الرّجل؟ من أين أتى ليقلب حياتها رأساً على عقب يفقدها السّيطرة على جسدها؟ يداها وقدماها ترتجفان كما قلبها كلما فكرت فيه. ماذا تراه يفعل الآن ومع من تراه جالساً؟ ماذا لو كان له حبيبة؟ يده الخالية من خاتم تهدئ هواجسها، تقنع نفسها بإجابات تناسبها وتعيش على أمل لقائه، فبعدما وجدته سيكون من الصّعب جداً أن تخسره!

وها هو اليوم الذي انتظرته يأتي. لكن حماستها الزّائدة كانت تمتزج بشيء من القلق والارتباك. فقد يباغتها الحب اليوم وعليها أن تتهيّأ له جيداً. راحت تقلب في خزانتها، تختار وتبدل دون أن تثبت على رأي، حتى وصل بها الأمر إلى ارتداء ملابس تليق بحفلة ساهرة. تدخل أمها عليها وتسألها باستهجان واضح: «مريم ما دهاك، هل تنوين الذّهاب إلى الجامعة بهذه الملابس؟ لم أعهد بك يوماً عدم القدرة على انتقاء ما يناسبك!».

نظرت مريم إلى نفسها وأحست لحظتئذٍ كم هي بلهاء، بدا الموقف محرجاً وغير مبرر، ضحكت والدتها وما زالت مستغربة: «هيا بدلي هذه الملابس وضعي عليك «الجينز» والكنزة البيضاء تجدينها في درجك».

أومأت مريم برأسها وكأنها تقول حاضر ووجدت نفسها تفعل ما طلبته والدتها.

يا لتلك الحماقة التي ستتكرر كثيراً من الآن فصاعداً!!!» تفكر مريم، لم يجعلنا الحب نفقد تقييمنا السّليم للأشياء؟ يعمق دواخلنا لنكبر أعواماً ويسخف تصرفاتنا فإذ بنا أطفال!

back to top