أزهار الشوكران

نشر في 28-04-2018
آخر تحديث 28-04-2018 | 00:02
No Image Caption
بدت ليلة هادئة، غارقة في سكون، لا يكسره سوى حفيف الريح وهي تصارع وريقات الأشجار، كانت الأجواء ملتحفة بنسيم هواء بارد، والعتمة تغطي المكان، إلا من أضواء السيارات المركونة بشكلٍ عبثي، التي كانت تجذب الانتباه وتتلألأ في أرجاء المكان، كانت ساعة متأخرة من الليل عندما لاحت أضواء سيارة قادمة من البعيد المتلاشي، فتوجهت الأنظار إلى القادمين من وسط العتمة.

- ربما إنه هو.

قال الشرطي للضابط الذي يقف أمامه، رد عليه الضابط قائلاً:

- أتمنى ذلك، لم أعد احتمل الوقوف هنا في هذه الساعة المتأخرة.

وصلت السيارة أخيراً، بعد ثوانٍ عصيبة من الانتظار كانت تمر على المتسمرين هناك، عناصر الشرطة تنتشر هنا وهناك، بينما اضواء سيارة الإسعاف ترشق المكان بشكل مستمر، ترجل من السيارة الرائد سهيل الموسوي، كان رجلاً فارع الطول، ذا بنية مكتنزة، تنسدل على جانبي فمه شوارب كثيفة، تزيد من سمرة وجهه المعتم وسط الظلام.

نظر إلى عناصر الشرطة المتجمعين بامتعاض شديد، وبدأ يتقدم بخطوات هادئة نحو ضابط الشرطة ثم قال دون أن يلقي التحية:

- متى تتعلمون أن هذا المكان مسرح جريمة؟. هل تعلمون أنكم حيثما تكونون تحدث المشاكل دائماً، لا اعلم متى سوف يدرك مدراؤكم أنكم مجموعة من الحمقى، ضرركم أكبر من نفعكم، هيا، أخلوا مسرح الجريمة الآن!!.

هرع الضابط يزجر عناصر الشرطة ويبعدهم عن مسرح الجريمة، بينما تقدم الرائد سهيل نحو جثة الرجل الملقاة، وثب على رجليه، ظل ينظر إلى تلك الجثة بإمعان وتركيز شديد، بينما كان المكان غارقاً بالصمت، مد يديه وتحسس درجة حرارة الجثة بيده اليمنى، ثم عاد للنهوض ودس يده في جيبه مخرجاً هاتفه النقال ثم اجرى اتصالاً:

- مرحباً، إنها جثة أخرى، نعم، عليها نفس العلامات، حسناً انتظرك غداً.

قام الرائد سهيل بتشغيل مصباح يحمله يعمل على البطاريات، وبدأ بتمشيط المكان والبحث عن أي ادلة تساعد على الوصول إلى المجرم، ثم سأل ضابط الشرطة أثناء استمراره في البحث:

- هل وجدتم أي شيء بالقرب من الجثة؟.

فز ضابط الشرطة مرتبكاً، كأن صعقة كهربائية قد سرت في جسده، ظل ينظر إلى الرائد سهيل لبرهة من الزمن، اضاع الكلام من بين فكيه، هكذا بدا قبل أن يرد متلعثماً:

- نعم.. نعم..! لقد وجد أحد عناصرالشرطة وريقة، خط عليها مجموعة أرقام لم أفهم معناها، أو ربما ليست ذات معنى، لكن احتفظت بها لحين حضورك، تفضل هذه هي. نهض الرائد سهيل بغضب وتقدم نحو ضابط الشرطة ساحباً تلك الوريقة من يده، ثم اخذ نفساً عميقاً وأطلقه في وجه الضابط وهو يقول: صبرك ياااا رب....

- هل تنتظر ان اغادر حتى تبعثها لي بعد أن نحل القضية، أو بعد أن يقبض الله روحي؟

بدا الضابط محرجاً وهو يتعرض للإهانة أمام عناصر الشرطة الذين يعملون تحت أمرته، لكنه لا يستطيع أن يعترض على أي حال، يعتبر الرائد سهيل الضابط الأعلى رتبة، وينتمي أيضاً إلى مديرية مكافحة إجرام بغداد، وهذا الجهاز الأمني يعتبر المسؤول عن مكافحة الجريمة في مدينة بغداد، وتعتبر سلطة المنتسبين إلى هذا الجهاز عالية مقارنة بباقي الدوائر مثل النجدة والشرطة المجتمعية، لذلك كان مجبراً على تقبل تلك الإهانة على مضض.

غالباً ما يكون الصباح مفعماً بالحيوية والنشاط، لكنه لا يكون كذلك في بغداد، خاصة إذا بدأت صباحها بانفجار دام جعل طرقها مزدحمة، إلا الطريق إلى المقابر فأنه سالك على الدوام، كان الرائد سهيل يقف أمام دائرة الطب العدلي وسط بغداد وتحديداً امام البراد الذي يحتوي على جثث الموتى، بمعزل عما يحدث بعد البنايات الشاهقة في الجانب الآخر، لكنه كان يسمع أصوات سيارات الشرطة والإسعاف وهي تدوي، بعد صوت ذلك الانفجار الذي أفاق سكان بغداد في ذلك الصباح، كانت الانفجارات ترنيمة صباحية من النادر أن يفتقدها العراقيون، أصبحت ضرورة ملحة، وقوداً يعتاش منه الساسة والمرتزقة وعمال المقابر، بعد مضي بعض الوقت كان هناك شخصان يمشيان بشكل سريع قادمين من بعيد، إنهما الملازم سعيد والدكتورة إستبرق.

- نعتذر على التأخير سيدي الرائد. لقد تم قطع اغلب الطريق، اضطررنا إلى اكمال الطريق مشياً على الأقدام، عليك أن تخرج لترى بغداد وزحام شوارعها....

- كفى!!، سبق أن سمعت تلك الأعذار مراراً وتكراراً، يمكنك البحث عن عذر آخر في المرة القادمة، هلا أسرعت دكتورة، ليس لدي الكثير من الوقت لأهدره بالوقوف هنا.

اضطربت الدكتورة إستبرق نوعاً ما وهي ترى رجلاً يتعرض للتوبيخ، فعادةً تأخذ النساء موقفاً سلبيا من الرجال الذين يستخدمون أسلوباً فظاً في التعامل مع الآخرين، تعكر صفو وجهها وهي تومئ برأسها إلى الرائد سهيل، وهي تشرع بالدخول إلى براد الطب العدلي لفحص تلك الجثة التي عثر عليها في اليوم السابق.

- هذه الجثة الثانية التي تحمل مبدئياً نفس الأوصاف التي كانت موجودة على الجثة الأولى، نريد أن نعرف إذا ما كانت هناك أي أدلة مشتركة أخرى يمكن أن نعتمد عليها في حل القضية.

قام الموظف بسحب الجثة ورفع الغطاء الموضوع فوقها، فزعت الدكتورة إستبرق بشكل كبير وسط ذهول الموظف والرائد سهيل وكذلك الملازم سعيد، الذين لم يتوقعوا من دكتورة اختصاص بالطب الشرعي أن تفزع من مجرد رؤية جثة، من المفترض أنها قد تفحصت آلاف الجثث في حياتها المهنية، عادت لتتمالك نفسها، كشجرة تحاول لملمة أوراقها بعد ريح عاتية، ثم بدا عليها الاضطراب مرة أخرى وهي تمد يدها لتتفحص الجثة، قامت بتدوين الملاحظات، اكتشفتها بعد حركات وفحوصات بدت للآخرين ليس لها أي معنى، أو ضرورة درامية يقوم بها الأطباء عادةً، وتساءلت:

- أين الجثة الأولى؟.

- تم تسليم جثة الفتى إلى ذويه، بعدما قام بفحصها طبيب مبتدئ، أغلب الظن انه قد دفن في مثواه الأخير.

- حسناً، أريد التقرير الطبي الخاص بالضحية الأولى.

لا مانع، سوف أقوم بإرسال التقرير الطبي إلى مكتبك اليوم، لا أخفي عليك، أعتقد أننا نتعامل مع قاتل محترف، وضليع بمجال الطب إلى حدٍ ما، لذلك طلبت من دائرة الطب العدلي أن تقوم بترشيح طبيب ماهر جداً، اتمنى أن لا يتخلل العمل أي أخطاء وسوف أكون شاكراً لك ذلك.

- لا تقلق حضرة الضابط....؟

- سهيل، اسمي الرائد سهيل الموسوي.

- حسناً استاذ سهيل، سأبذل كل ما بوسعي في سبيل ذلك، وأعتذر على اضطرابي، فللمرة الأولى أرى جثة مشوهة بهذا الشكل الرهيب، فالقلب تعرض إلى عملية استئصال دقيقة والشرايين غير متضررة، فاعتقادك في محله بشأن القاتل، إنه ضليع بمجال الطب، لم يعرض الشرايين والمناطق المحيطة بالقلب إلى أي ضرر، كما تم أقتلاع العينين من مكانهما بدقة متناهية، واللسان قد تعرض للقطع أيضاً وكذلك الأعضاء التناسلية، فقد تم قطعها وتشويه المنطقة بالكامل، لكن هذه الأعضاء مفقودة ربما يجب عليكم البحث مجدداً في محل الحادث علكم تجدونها هنا أو هناك.

back to top