حوض السلاحف

نشر في 21-04-2018
آخر تحديث 21-04-2018 | 00:00
No Image Caption
أنا واقفة هنا أمام بوّابة السجن الحديدية الداخلية. هذا أمر مؤكّد. فما أراه هو بوّابة من الحديد، بإمكاني تمييز نوع المعادن، على الأقل الحديد. أنا أنظر أمامي وأرى البوّابة، إذن البوّابة أمامي. الأرض وإن كنت لا أشعر بملامسة قدميّ لها لكنني أراها أسفل نظري وأرى قدميّ عليها، ولا شيء منّي غيرهما يلامس الأرض تحتي، إذن أنا واقفة. ولا بد أن من يقف هنا الآن هو أنا، وإلا فأصابع من هذه التي أشعر أنها ستتكسّر من شدّة الشّد عليها؟ وما زلت هنا رغم أنني لا أشعر بوزني، فإذن أنا فعلاً أقف أمام بوّابة السجن الحديدية الداخلية الآن. ولون البوّابة أسود، بإمكاني تمييز عتمته بسهولة، فأنا أكرهه.

وهذه البوّابة لا شك أنها بوّابة سجن، لأن كتلة ضخمة بلون كحلي تقف بجانبي تماماً. أرى أصابعها تبحث بين المفاتيح الكثيرة في يدها عن المفتاح الذي تحتاجه. لا شك أنّها تبحث عن مفتاح وإلا لِمَ كل هذه الخشخشة؟ ولا بد أنها تحتاحه وإلاّ لماذا تبحث عنه؟ أنظر إليها بطرف عيني اليمنى ولا أرى أيّ ملامح.

كتلة سمراء في بدلة كحلية فقط. وكأنّ نظرتي الزّجاجية تقع على سطح زجاجي. هي لا تنظر إليّ، ولا حتى بطرف عينيها. هي لا تراني أيضاً، لا تشعر بهالة جسدي تتداخل مع هالة جسدها. لا ترى حتى كتلتي كأنني رقيقة جدًا وشفافة جداً، فتحتاج إلى أن تبحث عنّي كمن يبحث بنظره داخل ثقب مفتاح باب ليرى ما يبحث عنه، وكأنني ضحلة جدًا أمامها وتحتاج إلى أن تنحني إلى الأسفل، بل تثني ركبتيها أيضاً كي تتمكن من رؤيتي أو سماعي في حال تكلّمت. ولا أتكلّم.

تتعرّف الكتلة الداكنة الواقفة قربي بثقة على المفتاح الذي تبحث عنه لكثرة ما استخدمته سابقًا على الأرجح، ثم تدخله في ثقب قفل بوّابة الحديد السّوداء. لا شيء يميز هذا المفتاح عن المفاتيح الأخرى، على الأقل ليس بالنّسبة إلي. أنظر إلى يدها وهي تدير المفتاح وأفكّر بعمق الهوّة التي ستُفتح عليها البوّابة وعلى بعد كـم سنتيمتر ستبدأ هذه الهوّة، هل سأتمكن من أن أخطو خطوة واحدة على الأقل قبل أن أقع فيها؟ هل أوّل خطوة لي باتّجاه الدّاخل هي نفسها القفزة الوحيدة داخل الهوّة؟ هل ستدفعني؟ هل ستضطر إلى أن تدفعني؟ أم ستتركني أختار اللحظة وأستعد لها؟ لا، لا أظن أن لدي كل هذه الرفاهية. ولكنّها لا تراني فكيف لها أن تدفعني. قد تدفعني بنظرتها التي على الأرجح أنها زجاجية أيضاً. الأفضل أن أسهّل عليها الأمر وأقفز دون أن أضطّرها إلى أن تراني وتدفعني. لا أحب أن يلمسني أحد خاصّة من الخلف، وهي إن أرادت أن تدفعني، فلا بدّ أن تفعل من الخلف، ولكي تضمن سقوطي، عليها أن تضع يدها أعلى قليلاً من وسط ظهري، أي بين الرّفشين، ثم تدفعني. أفضّل القفز في هذه الحالة وإن كان دون استعداد. لم أجرّب مسبقًا القفز إلى هوّة، لكنني أرجّح أنها لن تكون عمودية، إنّما أفعوانية الشكل كتلك التي نراها في مدينة الملاهي. لا بأس إن كان الأمر هكذا، ستكون أشبه بالانزلاقة بدل القفز. لا بدّ أن تكون بهذا الشّكل، لأنّ القفز العمودي قد تنتج عنه حوادث لا أظن أن لديهم الوقت لمعالجتها.

بقي أمر واحد: ماذا لو كانت موحلة؟ هذا أمر لا يمكنني تحمله وليس بالأمر المهمّ لهم كي يحاولوا تجنّبه. فهم بالتأكيد لديهم وسيلة أخرى ليصلوا إلى حيث تنتهي الأفعوانية غير الطّريق الذي خصّصوه لنا، وبذلك لن يبالوا بمسألة توحّلنا لأنها لن تطاولهم عندما يقرّروا تفقدنا في أسفلها. هذا طبعا إذا كانوا يتفقّدون الموجودين بعد قفزهم أو دفعهم. ربما ينسونهـم في الأسفل، وإن احتاجوا إلى مخاطبتهم فمن المؤكد أن لديهم {إنترفون} تصدر عنه الأصوات من طرف واحد فقط.

تفتح البوابة. أرفع قدمي اليمنى مسجّلة أولى مراحل خطوتي الأولى بعد البوّابة. أشعر أنّ إيقاع الحركة في داخلي أسرع بكثير من الحركة التي أقوم بها. الزّمن داخل رأسي أسرع من الزّمن خارجه. في الدّاخل أصبحت أسفل الهوّة. في الخارج أضع قدميّ أرضاً على عتبة البوّابة وأبدأ برفع القدم الأخرى. وبهدوء تام على الرغم من المعدة المنكمشة والأسنان الملتصقة على بعضها بعضاً، وبدعسة واحدة أصبحت في الداخل حيث لا مجال الآن أن أكون خارجه.

لا أنزلق، لا أقفز، لا أتوحّل، لا أدخل إلى رأس أحد. على الأقل ليس إلى رأس جون مالكوفيتش. لا أتمكن من رفع نظري مليمتراً واحداً لأرى أكثر مما أراه في هذه اللحظة: قدميّ الواقفتين، بأصابعي الطويلة وأظفاري القصيرة المقلّمة بعناية وغير المطليّة داخل صندلي التركوازي المائل إلى الأخضر، على بلاطة مربّعة لونها بيج، وجزء من فراش لا يتعدّى السنتيمترات المربّعة القليلة، يلامس ضلع البلاطة التي أقف عليها عند طرف نظر عيني اليسرى، وطرف البوابة المفتوحة إلى الداخل أقل من تسعين درجة فقط لأنّها تعسّرت عن إتمام فتحتها بسبب اصطدامها بالفراش، والضوء الذي لا بد أنه ناتج عن إنارة كهربائية لم أتوقع وجودها في هذا الوقت من العتمة.

أسمع أكثر ممّا أرى، وأكثر ممّا سمعت في أي ساعة رابعة من أي فجر مرّ عليّ سلفًا. وأنا خارج البوّابة توقعت أن تدخلني البوّابة إلى بعدٍ آخر، بعد صامت خالٍ من الأصوات وإن كان موحلاً. لسبب أجهله غاب عني أمر الصّوت حينذاك، وها هو الصّوت يفاجئني بعد الخطوة الأولى أكثر من الضّوء حتى. مع الصّوت أعلم أن البعد الذي أدخله له توقيت مختلف. بعدٌ يفصله عمّا خارج البوّابة خطوط عرض وطول كثيرة، إضافة إلى إيقاع البعد الخارجي المختلف عن إيقاعي الداخلي. المرأة التي فتحت لي الباب دون أن تراني، وأفسحت بجسدها لي الطريق كي أعبر دون أن تطلب منّي ذلك، تخرج الآن من البوابة التي أصبحت خلفي دون أن تجيب عن أسئلتي التي لم أنطق بأي منها.

سلمتني للمكان مثل ناظرة في مدرسة للبنات، تضع تلميذة متأخرة عن عامها الدّراسي بعهدة تلميذات يعرفن ما المطلوب منهنّ لكثرة ما استقبلن تلميذات متأخرّات. يستقبلنني دون أن ينتظرن منها أيّ إرشادات ودون أن تكون قد نطقت هي بأيّ منها. في صف كهذا لا بد من وجود عريف صفٍ يأخذ مكان الأستاذ المسؤول في غيابه. لا أظنّ أنني سأمضي ما يكفي من الوقت لأعرف من هو، بالأحرى {هي} . ولن أسعى لمعرفتها بكل الأحوال. في داخلي ألتفت إليها وهي تغلق الباب، وأستوقفها وأسألها وأطلب منها ألاّ تغادر قبل أن تجيبب عن أسئلتي التي سأطرحها لو أنّني فعلاً أتمكن من الالتفات إليها ولو حتى بطرف عينيّ، لكنني أبقى واقفة حيث دعستي الأولى والوحيدة حتّى الآن. وأرى الضّوء واسمع الأصوات وأبرد، وهي تقفل البوابة خلفها.

back to top