جدل

نشر في 21-04-2018
آخر تحديث 21-04-2018 | 00:00
No Image Caption
1

الثلاثاء، الحادي عشر من شهر أيار عام 2014، ويحدث في هذا اليوم أن ينتفض عقلي المثقل بأكوام من الغبار والضباب بأفكار تمرد وسخط، ففي سابقة من نوعها يبتدع حجة واهية وأكذوبة وضيعة للتسلّل من المستشفى!

كنت قد احتسيت بعضا من فنجان قهوتي المعتاد، غير أنه اليوم كان محمّصاً بنكهة الموت، فما لبثت أن ارتشفت رشفتين وإذ بصافرة الإنذار تدوي في أرجاء المستشفى، يتلوها صوت: {حالة إغماء وتوقف القلب في قسم الباطني، الطابق الثالث}. تركت قهوتي وهرعت إلى الطابق مع باقي طاقم الإنعاش!

{نفسان عن طريق الفم... ثلاثون ضغطة قوية على الصدر.. نفسان.. عشرون ضغطة قوية على الصدر.. سلمت الروح لربها...}.

لم تكن المرة الأولى التي أتعرض فيها لهذا الموقف، فهذه إحدى الضرائب التي ندفعها كأطباء، ولكنها حتما كانت القشة التي قسمت ظهري، وللأبد.

لولا التناقض لما كان لحياتنا طعم! أن تنبت زهرة بين شقوق الصخور المتبقية من قصر أمية في موقع جبل القلعة - حيث هربت وحيدة بعد مغادرتي للعمل - أمر جميل ومحفز للوهلة الأولى، كما لو كانت إشارة على تخطي الصعاب والنجاح بالرغم من المعوقات. لكن إن أطلت النظر، لرأيت أنها تحملت صعاباً كثيرة وعانت عظيماً، لتعيش في النهاية وحيدة وفي بيئة غريبة وكئيبة! اغرورقت عيناي بالدموع، وفقدت القدرة على تمالك نفسي.

أمعنت النظر إلى الزهرة من جديد، هل نمت يا ترى من فتات الأمويين؟ هل أصر أحدهم على الخلود بأن يزهر هنا بالذات؟ أو ربما ساءه حال المسلمين الآن وأرادها تذكرة بأمجاد قد خلت واندثرت؟

ياه يا شمس! كم شهراً مضى على آخر كتاب تاريخي وديني قرأته؟! لم أعد أذكر! كم سنة مضت على آخر قصيدة شعرية كتبتها؟!

اكتست مكتبتي بطبقة سميكة من الغبار، وأدرَكت تلك الطبقة من الغبار عقلي أيضاً!

صحيح أنني استطعت أن أزهر بين حجارة المستشفى، بيد أني ذبلت على قبور المرضى، وضاع رحيقي وبهت لوني بين أروقة هذا المبنى ودهاليزه!

لم أكن دائما هكذا! فقد كنت مثالا للطبيبة المتفانية والمحبة لعملها ومرضاها!

كيف وصلت إلى هنا؟

يُقال إنَّ أعظم درجات الحكمة هي معرفة الإنسان لنفسه. ويُقال أيضا إنَّ الإنسان يتألف من جسد وروح وعقل وإنَّه يتوجب عليه تغذية كل منها وتحقيق التوازن فيما بينها كي يحيا حياة سعيدة ومليئة بالطاقة الإيجابية!

كم افتقدت روحي لصلاة خاشعة، ولجلسة تأملية روحانية بسبب كل الضجيج والصخب والسرعة التي اتسمت بها حياتي في السنوات الثلاث الماضية!

الروحانية والحكمة التي اكتسبتها من عملي وذلك من وقوفي أمام الموت والحياة والإيمان والحب، ستبقى خالدة أبداً، غير أنها لم تعُد قادرة على مجاراة كل ما يحصل من حولي، ولم تستطع أن ترجح كفة الميزان لصالحها!

كم افتقد عقلي لقراءة عميقة، شغفي منذ نعومة أظافري والذي ورثته عن أبي!

عندما استُنزِفت أهم العناصر التي تحافظ على سلامتي، وصلت إلى مرحلة اللاعودة! سأنسحب...

2

صحوت من زحام أفكاري على صوت رنين هاتفي، وإذ به إشعار من أحد مواقع التواصل الاجتماعي بذكرى ميلاد أحدهم! قمت بتصفح الموقع، فلان ينشر صوره أثناء قيامه بعمل تطوعي، أخرى تشارك بصورة لها وهي بكامل أناقتها أثناء حضور حفل زفاف، آخرون يدعون الله، وغيرهم يناقشون قضايا سياسية ودينية بعضها يشعل لهيب الفتنة!

مرت ساعة كاملة وأنا أتصفح منشورات فلانة وفلان، الغالبية العظمى منها منشورات سخيفة، حتى حطت بجانبي حمامة رمادية اللون، موشحة عند رقبتها بلون زيتي لامع! جعلتني أدرك كم أضعت من الوقت ورأسي في هاتفي، بينما الجمال والإعجاز كله من حولي!

قرار آخر، إلغاء اشتراكي في مواقع التواصل الاجتماعي كلها... والآن.

{في العزلة صفاء السريرة}؛ لست أذكر أين قرأتها، ولكني الآن حتما سأقوم بفتح نافذتي على مصراعيها مستقبلة كتبي وعزلتي.

من حسن حظي أني لم أزل أحتفظ بدفتري الصغير وقلمي في حقيبتي، بالرغم من أني لم أستخدمهما منذ وقت طويل! قمت بتصفحه، وأعادني ما فيه ثلاث سنوات إلى الوراء؛ حيث بدأت مسيرتي المهنية، وكنت قد وضعت جدولا - من باب النظام - بمهامي اليومية والتي هي أشبه بطقوس بوذية صارمة! كيف سمحت لظروفي أن تسلبني نفسي؟ كيف تحولت من حالمة صوفية إلى آلة روبوتية!

مزقت الصفحة، قمت بترويسة أخرى بـ {البداية}، وبدأت بخطّ جدول طقوسٍ جديد...

من الساعة الخامسة صباحا وحتى السادسة: صلاة الفجر.. قراءة جزء من القرآن.. التأمل.

من الساعة السادسة وحتى السابعة: المشي واستنشاق الهواء النقي قبل أن تلوثه رائحة أنفاس كل من استيقظ مُكرها للذهاب إلى وظيفة اختارته لتمتص رحيق شبابه!

من الساعة السابعة وحتى الثامنة: تناول وجبة الإفطار وشرب كوب من الكوكتيل أثناء قراءتي للجريدة، والتي لم أعد أستخدمها مؤخرا سوى لتقشير البصل والثوم والبطاطا!!

من الساعة الثامنة وحتى العاشرة: قراءة الكتب.

من الساعة العاشرة وحتى الثانية ظهرا: ممارسة هوايتي في المطبخ وتعلم وصفات جديدة!

قررت أن آخذ جولة بين زوايا القلعة، قبل أن يخرج عقلي بفكرة مجنونة أخرى، يكفيني هذا الكم من التغيرات في يوم واحد!

بدأت بجولة بين أنقاض معبد هرقل، والذي لم يتبقَّ منه غير عمودين عظيمين، وأتساءل؛ كيف لبشر ذوي إمكانيات محدودة بناء حرم بهذه الضخامة والعظمة! هل كانوا عمالقة حقا؟ لا، لا، مستحيل! فبقايا عظامهم لا تشير إلى ذلك على الإطلاق!

اتّكأت على أحدهما، وأغمضت عيني لتداعب أشعة الشمس وجهي، تلمست الحجارة وجاءني الجواب كنسمة ربيعية؛ إنهما الإيمان والحب، وهل لغيرهما القدرة على صنع المعجزات؟

مررت بقصر بني أمية، مرور الكرام، بالرغم من روعة التصميم الهندسي، وفخامة الجدران والقبة! فأي شيء يتعلق بالأمويين يذكرني بالمذبحة التي تعرضوا لها وبحيرة الدماء وفرار الناجي إلى الأندلس وما يتبعه من ازدهار ومن ثم سقوط! وما بين تلك المأساة ورغبتي الشديدة في زيارة الأندلس، أفر هاربة من القصر، وأترك التاريخ وحلمي بين جدرانه وقبته!

مشيت شاردة الذهن لأستيقظ من سكرتي على صوت هرولة فرس، خُيل إليّ أني رأيت فارساً بيزنطيا، حيث وجدت نفسي في شارع الأعمدة. أكملت المسير، حتى وجدت ركاماً آخر في الأسفل، على شكل شبه مربعات، كالمتاهة! قرأت سريعاً ما كُتب على اللوح الذي يشرح عن المكان، وإذ بها وحدات سكنية.

سرت بين دهاليزها، كل مربع على حدة، صرت أتخيل أشكال من قطنها، وأتساءل كيف اتسعت هذه المساحات الضيقة لعائلة كاملة. انتابني شعور بالدفء؛ بل والحنين! واستذكرت البيت الصغير الذي وُلِدت وترعرعت فيه، فعلى الرغم من ضيقه، إلا أنه احتوى حبا ملأ الكون، وعلى الرغم من انتقالنا إلى منزل فسيح، إلا أني ما زلت أحن إليه! ما السر في الأماكن والحجارة، ذلك السر الذي يجعلنا نشعر بالدفء والحنين المستمر؟ كيف للأماكن الضيقة أن تسعنا وتحتوينا عندما تعجز الأماكن الواسعة عن ذلك؟! أشعر أحياناً أن ارتباطنا بالأمكنة، أكبر بكثير من ارتباطنا بالأشخاص! تختزل الحجارة بين ثناياها والأماكن بين زواياها قصصا لم تُحكَ، وآمالاً تُبنى، تختزل ضحكات ودموعاً وشقاوة، ومهما حصل من تغييرات، تبقى الحجارة شاهدة على كل شيء، كهذه الحجارة الآن!

أفزعني رنين هاتفي، وإذ بها أمي، ألقيت نظرة على الساعة؛ الخامسة مساء!! ياه! مضت أربع ساعات منذ وصولي إلى هنا!

مشيت مسرعة نحو السيارة، وقررت المرور بالبلد لأشتري كتابا من أحد {أكشاكها}. ما يميز هذه الأكشاك احتواؤها على كتب يصعب إيجادها في المكتبات الكبيرة الأخرى، ومن جهة أخرى أجد أنه من الأولى أن نتسبب في رزق أصحاب المشاريع الفردية الصغيرة عوضاً عن المؤسسات الكبيرة المدعومة!

استوقفتني ملامح صاحب إحداها، حيث رأيت في تجاعيد وجهه ألف قصة وقصة. بدأت بقراءة سريعة لعناوين الكتب، لم أجد عنواناً يستفزني لقراءة محتواه! قررت اللجوء لصاحب الكشك في النصيحة، أعلم بأني، داخلياً، لم أكن بحاجة إلى شخص يعينني في انتقاء أي كتاب، فإذا قصدت حقا؛ لن أشعر بالحيرة. غير أن في أصحاب هذه الأكشاك ما يثير فضولي، فدائما ما أحاول فتح باب حديث معهم، غالباً ما يكونون بسيطي المظهر، لكنهم ذوو ثقافة واسعة وقصص مثيرة! أتخيلهم هاربين من رواية تاريخية ثورية، أجدهم الأعمق على الإطلاق!

{يعطيك العافية عمي، أيمكنك مساعدتي في اختيار كتاب؟}.

{أهلا ابنتي، أكيد، ما نوع الكتب التي تفضلين قراءتها؟}.

{أحب قراءة التاريخ والأديان، وفي الظروف الحالية أفضل قراءة رواية تتحدث عن تاريخ حقيقي أو ما شابه، أريد كتابا يهز كياني وينقلني إلى عالم آخر}.

{بسيطة، ثلاثية غرناطة - رضوى عاشور}.

شكرته وقررت شراءه من دون تفكير أو حتى قراءة الملخص، فعنوانه أثار فضولي، غرناطة، الأندلس، الحلم!

دفعت ثمن الكتاب وانتظرت أن يضعه في كيس، لكنه لم يفعل! حقيبة يدي كانت صغيرة لا تتسع لكتاب بحجمه! طلبت كيسا منه، وفاجأني بقوله: {إذا أردت كيسا فعليكِ أن تدفعي ديناراً}. ما هذا الجشع، قلت في نفسي! ولكني قررت أن أسأله عن السبب ومضيت قائلة بأنه أول شخص في البلد كلها يفرض على الزبون ثمنا لكيس بلاستيكي سخيف!

{هذا الكيس البلاستيكي السخيف برأيك؛ ضار جدا للبيئة، ولا يتحلل، وإذا سافرتِ إلى دول أوروبية ستجدين الجميع بلا استثناء يُغرّم من يطلب كيساً؛ الجميع هناك يحمل حقائب قماش مخصصة للتسوّق، هذا محكوم بقوانين يا ابنتي}.

شعرت بالخزي، واعتذرت من أسلوبي الفظ وشكرته، وقررت أن أحمل الكتاب وربما أشتري حقيبة أكبر لأستعيض بها عن أكياس البلاستيك! التغيير يحيط بي من كل الجهات على ما يبدو، أكملت المشي في شوارع البلد القديمة. الروائح، الأصوات، والأبنية القديمة، تثير في نفسي حنيناً لا أفهمه! هل هو الحنين لطفولتي، حيث كانت أمي تصحبني إلى البلد لشراء قصص لي، والصوف، والقطنيات، أم هو الحنين للبساطة وعدم التكلف، فقد سئمت تكاليف الحياة الحديثة وتعقيداتها غير المبررة.

رجعت عشرين سنة إلى الوراء، كنت في عمر السادسة، وكنت أستيقظ كل يوم مع أذان الفجر، أصلي ركعتين ثم أشاهد الرسوم المتحركة وأسرح بخيالي مع الفتى القزم الذي يسافر مع الطيور المهاجرة، ومع توم سوير والبيت الخشبي الذي بناه فوق الشجرة في الغابة! وبعدها كنت أحمل نفسي وأخرج إلى الحديقة، أتسلق شجرة الخوخ العظيمة وأجلس على جذعي المفضل أراقب خيمة البدو والأغنام! وأتساءل كيف تبدو الخيمة من الداخل، حدثتني نفسي مرات عديدة بالذهاب إليهم للتعرف إلى نمط حياتهم، لكن الخوف من أن أعاقب والخوف من أن أُخطف كان يمنعني في كل مرة.

back to top