كن حذراً عندما تتمنى

نشر في 14-04-2018
آخر تحديث 14-04-2018 | 00:00
No Image Caption
استيقظ هاري كليفتون على رنين هاتف انتشله من حلم، لكنه لم يستطع تذكره، ربما كان هذا الرنين جزءاً من الحلم، فتحرك بانزعاج ليجد العقارب الخضراء الفسفورية للمنبه القابع إلى جوار سريره تشير إلى الساعة 6:43 صباحاً، فابتسم لأنه أدرك من سيكون المتصل في مثل هذه الساعة. رفع سماعة الهاتف وتمتم بصوت يغالبه النعاس «صباح الخير حبيبتي»، ولكن لم يكن هناك ردّ، وللحظة تساءل هاري إن كان الفندق حوّل المكالمة إلى الغرفة الخطأ، وكان على وشك أن يعيد السماعة إلى مكانها عندما سمع نشيجاً فسأل متوجساً: «هل هذه أنتِ إيما؟».

فأتاه الردّ: «نعم».

فسألها بهدوء يخفي قلقاً: «ما الأمر؟».

«لقد مات سيباستيان».

لم ينبس هاري ببنت شفة، سيطر عليه الوجوم الآن، وأراد في مكان قصي من لا وعيه أن يصدق أنه يحلم، ولكنه في النهاية استجمع ما بقي له من شجاعة وسألها: «ماذا تقولين؟ كيف حدث هذا؟ لقد تحدثت معه بالأمس».

قالت إيما التي بالكاد استطاعت العثور على الكلمات: «لقد مات صباح اليوم».

انتصب هاري في جلسته وأصبح أكثر يقظة وتنبهاً.

أكملت إيما بين نحيبها: «في حادث سيارة».

حاول هاري أن يبقى هادئاً منتظراً أن تخبره ما حدث بالضبط.

«لقد كانا ذاهبين إلى كامبريدج معاً».

كرر هاري: «معاً».

«سيباستيان وبرونو».

«أما زال برونو حياً؟».

«نعم، إنه في مستشفى هارلو، ولكنهم لا يستطيعون الجزم بنجاته قبل مضيّ الليلة».

أزال هاري الغطاء عن جسده، ووضع قدميه على السجادة الصغيرة قرب السرير، كان يرتجف ويشعر بالإعياء وقال: «سأستقل تاكسي إلى المطار حالاً، لألحق بأول رحلة عائدة إلى لندن».

بدورها قالت إيما: «وأنا سأذهب فوراً إلى المستشفى». وصمتت. وتساءل هاري للحظة إن كانت على الطرف الآخر من الاتصال. ثم سمعها تهمس «يريدون شخصاً ما للتعرف إلى الجثة».

أعادت إيما سماعة الهاتف إلى مكانها، ولكنها استغرقت وقتاً حتى تستجمع قواها للوقوف، كانت حركتها غير متزنة، شأنها شأن بحار في عين العاصفة، واستندت إلى العديد من قطع الأثاث. فتحت باب غرفة الرسم لتجد مارسدن يقف في البهو مُنكساً رأسه. لم تعرف من قبل كبير خدمهم يبدي أي تعاطف أمام أحد أفراد الأسرة، لكنها بصعوبة أدركت أنه يمسك بعصا ليتوكأ عليها وقد بدّل الواقع القاسي للموت من قناع الالتزام الذي يكسو وجهه على الدوام.

قال بصوت مخنوق: «سيدتي لقد أعدت لكِ مابل حقيبة لليلة، وإن سمحتِ لي سأوصلك إلى المستشفى».

قالت إيما وهو يفتح لها الباب الأمامي: «شكراً لك مارسدن، هذا لطف منك».

أمسك مارسدن بذراع إيما في الطريق إلى السيارة، وكانت المرة الأولى التي يلمسها فيها. فتح لها الباب، فألقت بنفسها على المقعد الجلدي الوثير للسيارة. شغّل مارسدن المحرك، ووضع مبدل السرعة على الوضعية الأولى، فتحركت السيارة من مانور هاوس في طريقها إلى مستشفى برنسس الكساندرا في هارلو.

فجأة أدركت إيما أنها لم تتصل بأخيها وأختها لإخبارهما بما جرى. ستهاتف جريس وجيلز مساءً ليكونا على الأرجح دون صحبة فهي لا تريد نقل الخبر إليهما وهما بصحبة أحد. ثم شعرت بألم شديد في معدتها كما لو أنها طعنت. من سيخبر جيسيكا أنها لن ترى أخيها مجدداً؟ هل ستبقى الفتاة الصغيرة المبتهجة التي طالما كانت؟ من سيحوم حول سيباستيان مثل الجرو المطيع يهز ذيله من الحب المطلق؟ يجب ألا تسمع جيسيكا الأخبار من شخص آخر وهذا يعني أن على إيما العودة إلى مانور هاوس بأسرع ما يمكن.

توقف مارسدن عند محطة محلية حيث اعتاد التزود بالوقود ظهيرة كل جمعة. عندما رأى عامل المحطة السيدة كليفتون تجلس في المقعد الخلفي لسيارة الأوستين الخضراء موديل A30 ألقى عليها التحية رافعاً قبعته، لكنها لم تعره انتباهاً، فتساءل الشاب إن كان اقترف أي خطأ. ملأ الخزان، ورفع الخرطوم للتأكد من ملئه، وبمجرد إرجاعه إلى مكانه وبينما كان يعدل من قبعته، انطلق مارسدن بالسيارة من دون أن يتفوه بكلمة، ومن دون أن يعطيه الإكرامية المعتادة.

تمتم الرجل قائلاً حيث اختفت السيارة: «ما بهم اليوم يا ترى؟».

بمجرد عودة السيارة إلى الطريق، حاولت إيما استعادة بعض الكلمات التي استخدمها السيد بيتر مسؤول مكتب القبول عندما نقل إليها الخبر: «أنا آسف سيدة كليفتون لإخبارك أن ابنك لقي حتفه في حادث سير مروع». وخلاف ذلك لم يبدُ أن السيد بيتر يعرف الكثير، لكنه بعد ذلك أوضح أنه مجرد رسول. بقيت الأسئلة تصطدم بعقل إيما «لماذا ذهب ابنها إلى كامبريدج بالسيارة، في حين أنها ابتاعت له تذكرة قطار منذ يومين فقط؟ من كان يقود سيباستيان أم برونو؟ هل كانا يقودان بسرعة كبيرة؟ هل انفجر الإطار؟ هل هناك سيارة أخرى متورطة؟ وغيرها من الأسئلة التي شكت إيما أن أحداً يعرف الإجابة عنها. بعد دقائق من اتصال المسؤول هاتفتها الشرطة لسؤالها عن أحد يستطيع زيارة المستشفى للتعرف إلى الجثة، وأخبرتهم أنها ستقوم بذلك لأن زوجها في نيويورك يقوم بجولة من أجل كتابه. لو علمت أن زوجها عائد إلى إنجلترا في اليوم التالي بالطائرة لكانت رفضت أن تتولى هذه المهمة، لكن شكراً لله أنه سيأتي بالطائرة، وسيكون إلى جانبها خلال فترة تقبل التعازي، بدل أن يستغرقه المجيء خمسة أيام بالباخرة.

خلال عبور مارسدن مدن شيبنهام، ونيوبيري، وسلوت، فكرت إيما أكثر من مرة بدون بيدرو مارتينيز، هل يمكن أن يكون له علاقة بالحادث، وهل يسعى للأخذ بثأره مما حصل قبل عدة أسابيع في ساوثمبتون؟ ولكن بما أن برونو كان الشخص الآخر الذي برفقة سيباستيان فافتراضها يبدو بعيداً عن الواقع والمنطق.

ما إن سلك مارسدن الطريقA1، حتى عادت إيما لتفكر بسيباستيان، فهذا هو الطريق الذي سلكه فلذة كبدها قبل ساعات وقضى نحبه عليه. تذكرت إيما أنه سبق لها أن قرأت أن كل شخص يمر بمأساة يفكر لو أنه يستطيع العودة قليلاً بالزمن لتغيير الأحداث لكن ما من أحد يوفق بذلك.

بينما كانت السيارة تنهب الطريق نهباً. أخذت إيما تسترجع شريط ذكرياتها مع سيباستيان منذ ولادته عندما كان هاري في المعتقل في الجانب الآخر من العالم، وخطواته الأولى في عمر الثمانية أشهر وأربعة أيام، وكلمته الأولى «المزيد»، ويومه الأول في المدرسة عندما قفز من السيارة قبل أن يضغط هاري المكابح، ثم بعد ذلك في مدرسة بيرشكوفت عندما أراد مدير المدرسة طرده لكنه منحه فرصة، وعندما حصل على منحة دراسية في كامبريدج وكان أمامه الكثير لتحقيقه. وأخيراً عندما أقنعها أمين سر مجلس الوزراء بمشاركة سيباستيان في خطط الحكومة لإحضار دون بيدرو مارتينيز إلى العدالة. لو رفضت طلب السيد آلان ريدماين ربما كان ابنها الوحيد على قيد الحياة، ولو...ولو...

عندما وصلا إلى ضواحي هارلو، لمحت إيما من النافذة الجانبية لوحة مرورية تشير إلى اتجاه مستشفى البرنسس ألكساندرا. حاولت التركيز على ما هو منتظر منها. وبعد بضع دقائق، عبر مارسدن من خلال مجموعة من البوابات الحديدية التي لا تغلق مطلقاً، قبل أن يعبر المدخل الرئيسي للمستشفى. ترجلت إيما من السيارة، وبدأت تتجه نحو الباب الأمامي بينما توجه مارسدن باحثاً عن مكان لركن السيارات.

أعلمت إيما الفتاة في قسم الاستقبال باسمها، فتحولت نظرة البهجة في عينيها إلى نظرة عطف.

«هل من الممكن أن تتكرمي وتنتظري لحظة سيدة كليفتون؟» قالت ذلك والتقطت الهاتف وقالت: «سأخبر السيد أوين أنك هنا».

استوضحت إيما: «السيد أوين؟».

ردت الفتاة «إنه الطبيب المناوب الذي كان متواجداً عندما أُحضر ابنك هذا الصباح».

أومأت إيما، وأخذت تسرع الخطى في الممر مستبدلة الأفكار المختلطة بالذكريات المختلطة؛ من، ولماذا، ومتى وتوقفت عندما سألتها ممرضة ترتدي أزياء أنيقة «هل أنتِ السيدة كليفتون؟» أومأت إيما.

فقالت لها: «اتبعيني من فضلك».

قادتها الممرضة عبر ممر جدرانه خضراء من دون أن تتفوه بكلمة. ولكن ماذا يمكن لأي منهما أن تقوله؟ وتوقفتا خارج باب عليه لوحة كتب عليها السيد ويليام أوين، فتحت الممرضة الباب، وأفسحت المجال لدخول السيدة إيما.

جلس خلف المكتب رجل طويل ورفيع أصلع بوجه وردي حزين الملامح. تساءلت إيما إن سبق لهذا الوجه أن ابتسم من قبل، قبل أن يطلب منها الجلوس في المقعد الوحيد في الغرفة: «مساء الخير سيدة كليفتون». وأضاف قائلاً: «آسف أننا نتقابل في مثل هذه الظروف».

شعرت إيما بالأسى تجاه الرجل المسكين، وتساءلت كم مرة يضطر لقول هذه الكلمات يومياً؟ وهو بمجرد النظر إلى وجهه تدرك أنه لم يمر بما هو أفضل أبداً.

قال لها: «يؤسفني أن أخبرك أن هناك العديد من الأعمال الورقية يجب إتمامها، ولكن قبل ذلك لا بد من القيام بالتعرف إلى الجثة».

أومأت إيما، وأخذت تنشج، وتمنت لو أنها تركت هذا الأمر على عاتق هاري كما اقترح عليها. نهض السيد أوين من خلف مكتبه وجثا إلى جانبها وقال: «آسف جداً سيدة كليفتون».

لم يكن بمقدور هارولد أن يكون أكثر مساعدة ومراعاة، فقد حجز الناشر لهاري مقعداً بالدرجة الأولى على أول رحلة متجهة إلى لندن على الأقل سيكون مرتاحاً حيث أعتقد أن هاري المسكين لن يستطيع النوم. أيقن هارولد أن الوقت غير مناسب لإعلام هاري بالأخبار الجيدة، لكنه ببساطة طلب من هاري أن يرسل إلى إيما خالص تعازيه.

عندما خرج هاري من فندق بيير بعد أربعين دقيقة، وجد سائق هارولد يقف على الرصيف في انتظار إيصاله إلى مطار أدلويلد. جلس هاري في المقعد الخلفي من الليموزين، ولم يرغب بالتحدث إلى أي شخص. تلقائياً أخذ يفكر بإيما، وما تمر به. لم يستسغ فكرة تعرفها بمفردها إلى جثة ابنها، وفكّر أن الطاقم في المستشفى سيطلبون منها التريث ريثما يصل زوجها.

لم يهتم هاري، لحقيقة أنه من بين الركاب الأوائل الذين يعبرون الأطلسي دون توقف حيث إنه لا يستطيع إلا أن يفكر في ابنه وكيف كان يتطلع إلى ذهابه إلى كامبريدج لبداية عامه الجامعي الأول، وهو الذي توقع لموهبة سيباستيان اللغوية أن تقوده للانضمام إلى وزارة الخارجية أو يصبح مترجماً أو مدرساً، أو...

عندما انطلقت الطائرة رفض هاري كأس الشمبانيا التي قدمتها له مضيفة الطيران بابتسامة، ولكن كيف لها أن تعرف أن ليس لديه شيء ليبتسم من أجله؟! وهو لم يوضح لمَ هو يرفض الأكل أو النوم. درّب هاري نفسه على البقاء مستيقظاً لمدة ست وثلاثين ساعة خلف خطوط العدو في الحرب من خلال الأدرينالين المفرز جراء الخوف، وكان يعرف أنه لن يستطيع النوم قبل أن يلقي على ابنه النظرة الأخيرة، وشك أن ما يبقيه يقظاً اليوم هو أدرينالين اليأس.

قاد السيد أوين إيما بصمت عبر ممر قاتم حتى توقفا خارج باب مغلق بإحكام، كتب على زجاجه المحجر كلمة واحدة بأحرف سوداء «المشرحة». دفع السيد أوين الباب ليفتحه وتنحى جانباً للسماح لإيما بالدخول. أغلق الباب خلفها بقوة. لقد جعلها التغيير المفاجئ في درجة الحرارة ترتعش، ثم استقرت عيناها على سرير مدولب في وسط الغرفة كانت الملامح الضعيفة لجسد ابنها مرئية تحت الملاءة.

كان هناك مساعد طبي يقف عند مقدمة السرير لكنه لم يتحدث.

سألها السيد أوين بلطف: «هل أنتِ مستعدة سيدة كليفتون؟».

ردت إيما بحزم «نعم». وهي تغرز أظفارها براحة يدها.

أومأ أوين برأسه، فسحب المساعد الطبي الملاءة للكشف عن وجه مشوه بالندوب والإصابات، وجه عرفته إيما فوراً. صرخت وخرّت على ركبتيها، وبدأت في نحيب خارج عن السيطرة.

لم يتفاجأ السيد أوين والمساعد من رد الفعل المتوقع هذا لأم ثكلى ترى جثة ابنها للمرة الأولى، لكنهما صدما عندما قالت بهدوء: «إنه ليس سيباستيان».

back to top