فأر اللحظة وجبة أعمارنا

نشر في 11-04-2018
آخر تحديث 11-04-2018 | 00:00
 طالب الرفاعي أذكر حديثي الأخير مع الصديق المسرحي المبدع سعدالله ونّوس، وجدته ونظرة رمادية تسكن عينيه، قال لي بصوت واهن: "خدعتني...". كان صوته يصدر من صدره: "العكروتة الحياة، أوقفت صنم الموت أمامي، وجعلته يشير إليَّ بإصبعه الصغير صباح مساء!"، وكذا الروائي هاني الراهب، يوم قال لي: "لئيمة هذه الحياة، صارت تركض بأسرع مما أستطيع اللحاق بها!"، وما يشبه الأمر هذا حدث في آخر لقاء جمعني بالصديق المفكر جورج طرابيشي. كنتُ معه في باريس، ركبنا القطار، فلاحظت صمته وانشغاله عما حوله. وحين نزلنا وسألته إن كان تَعِباً، نظر إليَّ وهمس بصوت حزين: "كثيرٌ ما في رأسي، وضيقة فسحة الوقت والحياة!"، وليس ببعيد عن ذلك ما كان يدور بيني والصديقين العزيزين المفكرين أحمد البغدادي وأحمد الربعي.

جاءت إليَّ هذه الحوارات وأنا في زيارة لباريس، شاهدت أصدقائي وقد هرموا، وعبث تعب العمر بوجوههم ونظراتهم ونبرات أصواتهم. كذبت على نفسي وليس عليهم، حين كنتُ أقول لأي منهم: "شباب، وستبقى دائماً".

بينما يعتصر قلبي الألم، أردد وروحي: كُلنا كبرنا، قرض فأر العمر من أعمارنا الكثير، حتى عافت نفسه جبنة لحظات أعمارنا المرة، فأهملنا ولسان حاله يقول: ما عاد ما يغري بكم.

كيف بنا نعيش اللحظة حتى الثمالة؟ كيف بنا نملأ وعاء العمر بارتعاش فرح اللحظة؟ والسؤال الموجع؛ لماذا يتحتم على الإنسان أن يعيش لحظته واعياً متنبهاً لعبورها المارق، وبما يُفسد عليه التمتع بها؟ وكأن قدر الإنسان أن يبقى مُمتحناً بين الاسترخاء بعيش اللحظة، أو مناظرتها. وفي الحالتين هو في جهة دون أخرى، ولذة دون ثانية، وعيش ناقص!

مأزق لحظة الحياة أنها تُعاش مرة واحدة. سهم منطلق إلى هدف محدد، وليس يلتفت لغير انطلاقه. كل هذا جاء على بالي وأنا في باريس أردد على مسمع ابنتي فادية: "باريس متحف كبير يا بابا!". كل هذا جاء على بالي وأنا ألتقي أصدقاء مرَّت سنوات لم أرهم بها، وكل هذا جاء على بالي وأنا أعاود السير في طرقات سبق لي المشي فيها، وأماكن سياحية سبق لي الوقوف أمامها، لكن الشوارع ليست بالشوارع نفسها، ولا الأماكن، ولا الهواء، ولا المطر، ولا صوتي، ولا خطوتي، ولا كل ما يحيط بي!

هو فأر اللحظة يعتاش على جبنة أعمارنا اللينة! حين زرت بيت الكاتب فيكتور هوغو (1802-1885) ووقفت أمام مكتبه الذي كان يقف بقربه ليكتب أعماله واقفاً، ومن ثم خطوت لأدخل غرفة نومه وأعاين سريره الذي احتضنه حتى لحظاته الأخيرة، دار ببالي: هل يكفي ويُجازي المبدع والفنان عيشه مُخلداً بعد موته؟ وهل تراها حياة الخلود تقدم له عزاءً أثناء عيشه؟ كنت أفكر وأنا أرى عشرات البشر يمسكون بسماعات الصوت الصغيرة ليستمعوا لشيء من حياة الرجل بقصص حبه وزواجه وولعه بالرسم والتصوير وآلامه بفقد أبنائه!

كيف يعيش أحدنا بعد موته؟ وهل يعني ذلك شيئاً له بعد أن يطمر التراب جسده وتصعد روحه إلى بارئها؟

عشتُ حياةً مليئة بالصعاب، لكنها مليئة أيضاً بالسعادات العابرة، وكنت ولم أزل أردد لمن يحيط بي: "أنا محظوظ...". وأبلع باقي جملتي، فأنا أعرف مئات المئات من الأصدقاء الأقرب، وأعرف وعايشت مرّ حيواتهم، لذا أنا محظوظ مقارنة بجمع كبير من الأحبة الأقرب والأبعد. يقول شاعر تركيا العظيم ناظم حكمت:

"الغد أجمل الأيام"، وأنا لا أنفك أردد بين أحبتي وأصدقائي:

"أراهن على مسرة اللحظة القادمة!" هكذا كنتُ، وهكذا سأبقى، وفي صباح كل يوم، أفتّح عينيَّ وأناظر فأر اللحظة الأسود الصغير، وأصرخ به:

ابتعد عن طريقي، فهناك ضياء يملأ السماء.

back to top