فدوى

نشر في 07-04-2018
آخر تحديث 07-04-2018 | 00:00
No Image Caption
من مرآتي، لا أرى نفسي بل أرى ما عكسته المرآة لي. يوم ربيعي ومبانٍ بعيدة، وسارة فوق أرجوحتها سعيدة. تلك سارة وتلك فرحتها، وهي سر فرحتي أنا أيضاً. لكن السماء لم تكن صافية، لم تكن هادئة.

طوافة حربية تبحث عن شيء ما، ربما عن شخص ما. تبدو كحشرة من البعيد. لم أقلق لثانية، لأننا اعتدنا احتلال الطوافات لسمائنا كما اعتدنا احتلال العدو لأرضنا. اعتدنا الهجوم العشوائي بسبب أو من غير سبب. ركّزت نظري مرة أخرى على المرآة لأرى نفسي، وأضع زهرة فوق رأسي لأذهب وألعب مع سارة وأرجوحتها.

توقفت فدوى عن الكتابة. وتركت قصتها معلّقة على مدونتها دون أن تكملها لأنها سمعت خطوات الفرس تقترب من البيت.

وضعت “اللابتوب” جانباً، وضعت وشاحاً على رقبتها، ونزلت السلالم درجة درجة وهي تردد “أحضر لي شيئاً... أحضر لي شيئاً”.

فتحت الباب بخفّة، وخرجت من البيت بهمس. نظرت إلى الفارس القادم وابتسمت ابتسامة عريضة.

- جئت في وقتك يا فارس... ماذا أحضرت لي؟

ترجل فارس عن فرسه وأزاح اللثام عن وجهه وابتسم هو الآخر.

- هذه هديتك!

وناولها صندوقاً.

لم تنتظر لثانية بل فتحته بسرعة فائقة وكأنه صندوق إسعافات أولية تحتاج استخدامه حالاً.

خاب ظنّها لوهلة، ثم حاولت أن تخفي خيبتها وابتسمت له قائلة:

- صَدَفة... يا الله ما أحلاها.

أسرع فارس بالرد وكأنه حقق انتصاراً:

- نعم... عرفت أنها ستعجبك.

ردّت بسرعة هي الأخرى:

- نعم فالبحر مليء بالصدف!

ودّعته وعادت إلى البيت بخفّة، وصعدت السلالم إلى غرفتها بهمس.

تساءلت في نفسها، لربما أنا لا شيء يعجبني أيضاً. خاب ظنها لأنها توقعت شيئاً مختلفاً يحضره لها الفارس. لكنّها سرعان ما تناست الفكرة وعادت لتكمل قصتها.

حدث اهتزاز، لم أشعر به بل رأيت آثاره. كأنها هزة أرضية بعثرت كل شيء. أول ما انتبهت إليه هو المرآة. كانت قد انقسمت إلى قسمين، قسم رأيت فيه وجهي بلا ملامح، وقسم رأيت فيه السماء مضطربة أو مشوشة، والغبار في كل مكان. الجدران تشرّخت والصور المعلّقة سقطت. واختفى صوت سارة بعد تلك الضوضاء الكبيرة.

لم يبقَ الكثير لأقوله، كانت لحظات بسيطة ولكنّها غيرت مجرى الحياة. كان للجدران أن تلتئم وللصور أن ُتعلّق مرة أخرى. وكان للمرآة أن تُرمى ونأتي بغيرها. ولكن تلك الأرجوحة بقيت كما هي، غير مكتملة. تجرح يدي حين ألمسها..

وتشككني بصحتي العقلية حين أسمع صدى صوت سارة تلعب من البعيد..

وتشطر قلبـي إلى نصفين تماما كمرآتي حين أرى دماً على حوافها.

نشرت فدوى كلماتها على سمائها الإلكترونية. فتلك المدونة تحوي كل ما تشعر به وما تريد أن تعبّر عنه. لديها زوارها المتواضعون الأوفياء الذين يطالبونها دائماً بالمزيد لكنّها تتركهم دائماً في حالة انتظار حتى تنتهي من قصة أو خواطر تعلّقها على المدونة كلوحة.

في غزة مدينتها أو “ملجأها” الصغير تشعر فدوى بالامتنان لكل شيء، فهي ممتنة لقرائها الذين يشعرون بكلماتها التي تنتزعها من قلبها انتزاعاً. فقلبها يسكنه الكثير من الامتنان، مثلاً: غرفتها ونافذة بهواء بارد وطلة البيت على البحر الصامت. صوت جيرانها في كل الأوقات، وأصوات أغاني المذياع الوطنية. ممتنة حتى لرائحة المطبخ، والشجرة التي تنتظر واقفة أمام البيت، ومرآتها التي تخبرها بأنها دائماً الأجمل ببشرتها السمراء وشعرها الأسود وحبة خالٍ صغير على جهة أنفها اليمنى ومجوهرات رخيصة ابتاعتها من الأسواق القريبة. تهمس لها المرآة أيضاً أن عالماً آخر بانتظارها وعليها أن تبحث عنه. عليها أن تستمع لصوت داخلي يزداد كل يوم حتى يسبب ضوضاء داخلية رهيبة لا تستطيع التحكم فيها.

«فدوى، فدوى، فدوى... لديك عالم آخر في الانتظار. فدوى، فدوى.. لا تتجاهلي الإحساس”.

ولكنّها لا تعرف مصدره. فكيف لها أن تثق بإحساس لا تعرف مغزاه. فعقلها يحدّثها بشيء وقلبها يحدّثها بشيء آخر. وهناك ما بين عقلٍ وقلب أحاسيس وأفكار تزاحم حقيقة حياتها وتجبرها على اختيار الرحيل.

ذلك صوت يأمرني “ارحلي”، فأجيبه بأسئلتي الكثيرة “كيف؟ ومتى؟ وإلى أين؟ وسؤال أكثر فداحة، لماذا؟”.

لست سندريلا لأحمل فستاني بيدي وأترك فردة حذائي الوحيدة وأركض وبملامحي هلع الوقت، فغزة لا تسكنها الأميرات. ولا أنا فتاة تستطيع تحطيم بقايا قيود القبيلة وتهرب إلى حضن الحياة. أنا فقط فتاة بسيطة تسكنها كلمات جدتها “إلي يطلع من ثوبه يعرى”.

****

جلست صباحاً مع أمها ترتشف فنجان القهوة على مهل. وتنظر حولها تفتش عن شيء تصلحه. فتلك النافذة تحتاج ستائر جديدة، وتلك الطاولة تحتاج لوناً جديداً، وذلك الباب يحتاج قفلاً أقوى. ومن عادتها أن تنظر إلى الأشياء بنظرة “إصلاحية” مثالية تعلمتها خلال دراستها للأدب. فكانت تنتقد وتفسر وتحلل كل كلمة تخطر على بال مؤلف، ولا يخطر على باله أن أحداً سيأتي يوماً ليفتت قصيدته إلى ألف معنى وألف شكل وكأنه ترك لهم “فتافيت” يقتاتون على تحليلاتها.

كسرت أمها فترة التفكير الصامت وسألتها:

- هل زارنا أحد ليلاً؟

تعثرت فدوى بين فكرة وكلمة، وردّت على أمها بتردد:

- نعم... نعم، كان فارس. أحضر معه صدفة.

- صدفة؟

حتى أمها كانت مستغربة لحال المسكينة ابنتها. فقد جاءها ذلك الشاب من أبعد بقعة ليحضر لها “صدفة”.

- كتر خيره يا فدوى.. قد تنفع لتكون منفضة سجائر.

لم تعتبر فدوى أن تلك كانت إهانة بل بالعكس، أن تجد فائدة لتلك الصدفة هو ما يغمر قلبها بقيمة أو بمعنى للهدية.

نعم فليكن، تلك صدفة على شكل منفضة سجائر سأضعها فوق طاولة الضيوف وسيعجب بها كل زائر. فهي كبيرة بما يكفي لمئات بقايا السجائر التي يتركها الضيوف لنا تذكاراً!

نظرت الأم إلى فدوى بحسرة وكأنها حزينة جداً لما آلت إليه أحوالها:

- ليت كان بيدي أن أخطبك لشاب أكثر حظاً.

لم ترَ فدوى سبباً لحسرة أمها، فكان خطيبها رجلاً مثل أكثر الرجال في غزة. صحيح أن البطالة قد أحاطته بعطفها هو الآخر، ولكنه يعمل ما يستطيع لكي يوفر دخله دون أن يضطر أن ينال عطف الآخرين عليه فيرموا بدولار هنا ودولار هناك كي يكمل حياته.

ولم يضع نفسه كفريسة لتجار الهجرة واللجوء، فلم يرَ أن مصيراً أفضل سيكون في انتظاره. فكان دائماً في حالة تساؤل منطقي.

تذكر كيف كانا يجلسان أمام البحر ويتحدثان عن المستقبل. ويقول لها إنه لا يرى مستقبلاً أفضل بعيداً عنها. ولا يرى بأن ثروة بانتظاره في أوروبا. كيف سيعيش في أجواء لا تناسب طبيعته؟ أم عليه أن يتأقلم... وما معنى أن يتأقلم سوى أن يسلّم بالأمر الواقع ويعتاد هواء أوروبا. ويتكيف مع طقسها اللامنطقي. وماذا عساه سيعمل هناك؟ مجفف أطباق في المطاعم؟ أم مروضاً لكلاب الجيران؟ هو لا يرى أي منطق يساعده على استيعاب فكرة الرحيل.

يحيط به كثير من الشباب الذين وضعوا صوب أعينهم هدف الرحيل. فتراهم يقنعونه بجمال الطبيعة في بلاد الغرب تارة، وتارة يغرونه بالفرص التي قد تصادفه. فقناعاتهم جميعها ليست مقنعة، وإنما هم يسيرون على هدى القدر. قدريون بالفطرة ولديهم ظن كبير بأن الله سيعتني بهم أكثر إن رحلوا إلى هناك.

يبدو أن فارس مقتنع جداً بحاله، ومع فدوى تبدو حياته أجمل مما هي عليه في الواقع. دائماً ما يجلس كمستمع أنيق ومهذب. تملأ فدوى الجو بكلماتها. تحكي له عن عائلتها، عن نظرتها الإصلاحية وعن عملها الذي يسرق من جهدها الكثير. كان هو الوحيد الذي يستطيع فهم ما تريده. فكان يبكي عندما تحدّثه عن والدها.

والدها وقبل حرب تموز على غزة، كان سائق تاكسي. عمله أن يحمل الناس من مكان إلى آخر. ثم يوماً عاد إليهم محمولاً. توفي تاركاً فدوى في حالة من الذهول ومفهوم جديد عن الحياة.

فكيف لا وهو الذي طلب منها أمنية قبل أن يموت بساعات. قال لها حضّري لي “جبنة وعسل” لأنني سأمر لأخذهما وأعاود العمل.

ولم يعد!

ومنذ ذلك اليوم وتساؤلات تدور في وجدانها، هل يأخذ الموت بسيطي الأحلام؟ الهائمين في يومهم فقط؟ هل يأخذ أصحاب الأمنيات البسيطة؟ لماذا لم يتمنَّ شيئاً أكبر؟ لماذا مجرد جبنة وعسل؟ كانت تلك هي أمنيته الأخيرة، ولم يكن لديها متسع من القدر لتناقشه فيها.

كان فارس يستمع لكل كلمة تقولها، ويحاول أن يشعر بالموجات الحزينة التي تنتابها، لم ينطق بكلمة بل ابتسم وجلس يحدق إلى البحر وهي بجانبه تنتظر اللاشيء. فهو يعرف الكثير عنها، يعرف أن عائلتها المكونة من ستة أشخاص، أم وأب (متوفى) وابن وثلاث بنات يعيشون تحت سقف واحد. فدوى تحب عائلتها بإخلاص فكيف لا وهي الشقيقة الكبرى. يتبعها فايز الذي يهوى كرة القدم ليلاً ونهاراً، وحنين وفرح التوأم المختلفتان. كل واحدة منهما تزعج حياً بأكمله.

لم يكن فارس على وفاق مع أم فدوى. أمها التي دائماً ما كانت تحلم بأن تنال فدوى حياة أفضل من حياتها. فالزواج كان الباب الذي سيفتح بخيرات كبيرة لفدوى حسب نظرة أمها. فهي لم تستوعب فكرة الحب التي تسيطر على مزاجها. أي حب هذا الذي سيعيش وسط الفقر. فارس ليس لديه عمل سوى تلك الفرس يخرج بها هنا وهناك ويخترع الأعمال اختراعاً. يصور الأطفال وزوار الشاطئ مع الفرس ويأخذ مبلغاً مضاعفاً على الرحلات القصيرة على ظهر فرسه.

لا تتوقف الأم عن تذكير فدوى بأن الفرس ستموت يوماً، وسيبقى حبيبها رفيقاً للهواء. وسيتحول إلى إنسان آخر، إنسان معدم، غاضب، باحث عن الأمل بيأس كبير. سيصبح الكابوس الذي يحيط بفدوى من كل الجهات. ترسم أمها كل تشاؤم يمر في بالها ولا تتردد في قوله، وتحيك لها شالاً من التعاسة يغطي أيامها السوداء.

وبين حب هنا، ولوم هناك تتأرجح فدوى مع أفكارها. ولكن حمداً لله على العالم الافتراضي. فهي تجد راحتها بين طيات مدونتها وصفحتها الفيسبوكية.

«أريد الهروب...»

كتبت تلك الكلمات على صفحتها وسرعان ما انهالت على منشورها التعليقات. تعليقات بكل الأذواق والمشاعر، تطرد هواجس فدوى وتشغلها بالرد. تتجاهل الكثير من التعليقات وتتعمد عدم قراءة غيرها.

أين الهروب؟ وكيف الهروب؟ ومن مَن؟ تساءلت ووضعت علامات استفهام في زاوية من زوايا غرفة الأفكار التي تعيش فيها. تلك الليلة كانت هادئة ولم تسمع وقع خطوات الفرس.

back to top