المفكِّر الفرنسي برنار هنري ليفي: عدم التدخّل في سورية عار علينا وانتحار للأنظمة الديمقراطية!

نشر في 05-04-2018
آخر تحديث 05-04-2018 | 00:00
يُجدّد الكاتب والمفكِّر والفيلسوف الفرنسي برنار هنري ليفي في كتابه الجديد L'Empire et les cinq rois (الإمبراطورية والملوك الخمسة) (دار نشر غراسيه) دفاعه عن غربٍ فخور بقيمه ومستعد للدفاع عنها في كل مكان. لكن لم تمرّ هذه الفكرة من دون تحليل نقدي لأفعاله الخاصة. مقابلة معه.
يوحي اسمك بأنه علامة تجارية. يمرّ الرؤساء على الحكم بينما تحتفظ أنت بمكانتك، لكن بأية صفة؟ فيلسوف، أو كاتب، أو شخصية جاذبة، أو رجل أعمال، أو مُلهِم السياسة الخارجية... أصبحتَ صورة كاريكاتورية لرجال السلطة على الطريقة الفرنسية...

«رجل أعمال»؟ يا لها من فكرة مضحكة! يبدو أنكم تطالعون موسوعة «ويكيبيديا» التي تصرّ على تقديمي بهذه الصورة ضمن «إطار» يخلط بين المعلومات الصحيحة والخاطئة، كما يحصل في معظم الأوقات، ويطرح مجموعة من الافتراءات والأخبار المزيفة. إنها معلومة خاطئة! تتعلق مهنتي الحقيقية التي أفتخر بها بالفلسفة. وأحاول عبرها أن أطوّر الجدل القائم. أريد أن أثبت مثلاً أن المأساة الحقيقية في الولايات المتحدة لا تتعلق بوصول ترامب إلى السلطة بدل أوباما بل إن الاثنين نسيا الشاعر الروماني فرجيل...

إنها الفكرة التي تُطوّرها في كتابك الأخير.

صحيح! تتعلق إحدى فرضياتي بواقع أن الولايات المتحدة تأسست على يد خبراء اللغة اللاتينية الذين يعرفون عن ظهر قلب ملحمة الإنياذة التي كتبها فرجيل. كان هؤلاء الآباء المؤسسون المولعون باللاتينية يشعرون بأنهم ورثة أينياس وأرادوا الهرب من مناجم طروادة وقطع البحار لإعادة إنشاء طروادة وتأسيس روما. لكنهم كانوا يهربون فعلياً من «أوروبا العجوز» التي احتفظوا منها بأهم الآثار القيّمة وذهبوا لاستثمارها في الغرب.

وصلوا إلى عمق الغرب، إلى الأراضي الموعودة في إنكلترا الجديدة. تكمن الأزمة الحقيقية التي تواجهها الولايات المتحدة في هذا المجال تحديداً... في هذا النسيان للإرث الأوروبي! ويواجه البلد في الوقت نفسه تلك القوى الخمس المتمثلة بروسيا والصين وإيران وتركيا والبلدان العربية التي تحمي الإسلام المتطرف وتنشره.

ليبيا والعراق

أيّدتَ بطريقة حاسمة أيضاً التدخل العسكري في ليبيا مع أن إيمانويل ماكرون انتقد هذا التحرك بقوة. كان هذا الموقف كارثياً حينها! لا يسعى أحد إلى الدفاع عن نظام القذافي لكن نشأت حرب بين الفصائل وحصل تدفق متواصل للمهاجرين بعد الإطاحة به...

لم يكن ذلك التدفق المتواصل للمهاجرين يخصّ الليبيين على حدّ علمي بل السوريين. ولم ينجم هذا الوضع فعلياً عن التدخل العسكري في ليبيا بل عن عدم التدخل في سورية...

لا تندم على أي أمر إذاً؟

مطلقاً! حصلت تلك الحرب على شرف فرنسا. منعت ليبيا من التحول إلى نسخة مشابهة لسورية، ما يعني أن يصبح البلد محطّماً ومدمّراً بمعنى الكلمة، فقد تهجّر الشعب وأصبح لاجئاً وجرى استنزافه بالكامل...

لكنك عارضتَ في المقابل التدخل الأميركي في العراق، في عام 2003...

كان الوضع مختلفاً. لم يطالب العراقيون بأي أمر، وأنا لا أؤيّد إسقاط الديمقراطية على أي بلد بهذا الشكل. لكن في ليبيا، طلب منا بعض الناس المساعدة وتوسّلوا إلينا كي نتدخل وكان عدم سماع ندائهم ليُعتبر عملاً إجرامياً. لطالما كان نداء الثوار وهذه الرغبة الناشئة في اكتساب الحرية، بدءاً من القديس توماس وصولاً إلى الأميركي مايكل فالزر، جزءاً من معايير «الحرب العادلة». كنا في صلب المسألة الليبية.

يواجه نيكولا ساركوزي، صديقك، دعوى قضائية بسبب طريقة تمويل حملته الانتخابية في عام 2007، إذ يُقال إن نظام القذافي موّلها. ألا يلقي هذا الوضع بثقله على تحرّكك في ليبيا؟

نحن إزاء موضوعَين مختلفَين. يتعلق الموضوع الأول بالتاريخ. إنها حكاية «خرافة النحل» للفيلسوف ماندفيل وترتبط هذه القصة أيضاً بالجغرافيا السياسية: بغض النظر عن دوافع أبطال القصة، يبقى العمل الصائب صائباً في الأحوال كافة ولا شيء يمكنه أن يمحو الحقيقة القائلة إن الغرب عموماً وفرنسا خصوصاً حققا ثلاثة إنجازات مهمّة: وقف المجزرة، وتدمير نظام دكتاتوري، والأهم من ذلك على الأرجح هو تحقيق سابقة تاريخية في علاقاتنا مع العالم العربي: انحاز الغرب، ولو لمرة، إلى الشعوب بدل الحكام المستبدين...

ما هو الموضوع الثاني؟

لستُ قاضياً ولا صحافياً. لكني أظن أن هذه القصة مستبعدة جداً. كنتُ على تواصل دائم مع ساركوزي خلال تلك الأشهر الستة من الحرب. بأي منطق يمكن أن يخوض رجل مسلّط على رأسه سيف داموقليس حرباً طويلة بكل هذا العناد؟ وكيف يمكن ألا يستفيد القذافي من الوضع لوقف كل شيء، كما يشهد الرأي العام الدولي، علماً بأن ذلك السلاح كان بين يديه؟

لقد فعل ذلك!

نعم، وابنه قام بالمثل. لكن حصل ذلك في الساعات الأولى من الأزمة ولم يتكرر بعدها. لكني أكرر لكم أن محطات التلفزة العالمية كانت موجودة في طرابلس، على بُعد 100 متر من قصره، وكانت لتكتشف الخبر حتماً! تخيّلوا للحظة التقرير الخاطئ الذي بثته قناة «سي إن إن» عن موسى كوسا فيما كانت الطائرات الفرنسية توقف الدبابات في محيط بنغازي أو البريقة أو مصراتة... كانت الحرب انتهت واحتُجز القذافي وكانت «أنهر الدم» بدأت تسيل منذ فترة طويلة...

هل كان يجب السماح بقتل القذافي؟

طبعاً لا! كتبتُ موقفي في مجلة «نيوزويك» في اليوم الذي تلا إعدامه. بالنسبة إلى هذه الثورة الديمقراطية الناشئة، كان ذلك الحدث مريعاً ومأساوياً.

لكن تزعزع الوضع في ليبيا رغم كل شيء ويصعب أن نتخيّل عودة البلد إلى سابق عهده.

أتمنى ألا يعود البلد إلى «سابق عهده» كما تقول، لأن ذلك الوضع يعني انتشار الرعب في الحياة اليومية، وحصول مجازر في السجون، وتعليق المشانق باستمرار، واتهام الممرضات البلغاريات بنقل مرض الإيدز، وابتزاز المهاجرين، وأخيراً دعم الإرهاب العالمي... في النهاية، من الطبيعي ألا تتحول ليبيا الجديدة إلى جنّة مثالية. إنه وضع مألوف تاريخياً.

في مطلق الأحوال، أخطأ الفرنسيون وحلفاؤهم، كما أكّد إيمانويل ماكرون، لأنهم لم يتابعوا المسار الديمقراطي بعد التدخل العسكري...

صحيح. ارتكبنا هذا الخطأ. كنت أول من اعترف بذلك. لكنّ تقاعسنا عن بذل جهود فائقة لا يعني بالضرورة وجوب ألا نتحرك مطلقاً. أكرر مجدداً: ما أسمّيه في كتابي الحرب الطويلة ضد الفساد في سبيل الأخوة، وضد السيادة المحصورة في سبيل الانفتاح الدولي، شهدت أولى انتصاراتها الحقيقية في هذا المكان. قد يكون مسار التاريخ بطيئاً وقد تكون الديمقراطية صعبة وتتطلب وقتاً طويلاً، لكنها مسألة مختلفة. تذكّروا تشوان لاي الذي سأله مالرو يوماً عن رأيه بالثورة الفرنسية فأجابه: «لا يزال الوقت مبكراً للحكم عليها»...

الرأي العام الغربي

أصبح الرأي العام الغربي في معظمه معادياً لمبدأ التدخل العسكري في الصراعات القائمة. بماذا تجيبهم؟

أقول لهم إنني لا أندم في هذه المرحلة من حياتي إلا على أمر واحد: ثمة مسألة واحدة أريد أن تسامحني عليها الأجيال المستقبلية، تتعلق بعجزي عن إقناع الأطراف المعنيّة بضرورة التدخل عسكرياً في سورية. 400 ألف قتيل، وأكثر من 12 مليون لاجئ، وتهجير نصف الشعب، وانتشار «داعش» في كل مكان: إنها هزيمة لنا وعار علينا وانتحار حقيقي للأنظمة الديمقراطية.

تغيّر وجه العالم فعلياً لأن «الإمبراطورية»، تحديداً الولايات المتحدة، قررت أن تتوقف عن دعم مبدأ التدخل العسكري. ألم تصبح وحيداً في معارضتك لهذا التوجه؟

ربما! لكني أعتبر هذا التوجه من أكثر الظواهر غموضاً وكارثية في الوقت الحاضر. أكرر أن باراك أوباما ودونالد ترامب وجهان لعملة واحدة. إذا قررت الولايات المتحدة أن تدير ظهرها لدعوتها الأصلية بشكل دائم، فلن يبقى إلا أوروبا كي تسترجع شعلة الديمقراطية. لكن هل ستفعل ذلك؟ أعترف بأن هذا الشك يرعبني.

خسرت الولايات المتحدة جنوداً في أفغانستان وفي بقية الشرق الأوسط ودفعت بذلك ثمناً يفوق حصّتها...

لا تتعلق المسألة بحصّة معينة. لا نتكلم هنا عن دين غير قابل للتسديد. عملياً، لا نهاية للمعركة من أجل الشرف والعدالة ومن أجل عالمٍ أفضل. لا يمكن أن نصل إلى أية نهاية في هذا المجال. إنها مهمّة متواصلة، وإلا يجب أن نتقبّل الهزيمة.

ماذا تعني؟

لننظر مثلاً إلى هذا الجهاد الذي يضربنا في عقر دارنا وأعتبره شخصياً آخر ما أنتجته النازية. لا نفهم أمراً عن هذه الظاهرة ولا يمكن محاربتها ما لم نضعها مجدداً في سياقها الجيوسياسي. بعبارة أخرى: إيران، وشبه الجزيرة العربية، وقطر، وتركيا...

حتى في فرنسا، تزامن انتخاب إيمانويل ماكرون مع تغيّر الأجواء العامة بعد عهد ساركوزي وهولاند الذي اتّسم بتطبيق أجندة المحافظين الجدد. هل يجب أن نخشى تجدّد الواقعية السياسية؟

لا أظن أن ماكرون يؤيد الواقعية السياسة بالدرجة التي تقولها. لنتذكّر مثلاً يوم أكّد بكل جرأة إزاء بوتين عدم اعتبار قناة «روسيا اليوم» وسيلة إعلامية محترمة بل أداة ترويجية، أو يوم استقبل رئيس الوزراء برزاني في الإليزيه رغم امتعاض أردوغان، أو يوم تكلّم عن القيم الديمقراطية إزاء شي جين بينغ. لم تكن تلك المواقف سيئة بأي شكل...

نعلم أنك أكثر قرباً إلى فرانسوا هولاند...

صحيح أنني كنت أؤيد السياسة الدولية لهولاند، لكنّ هذه المسائل ليست جامدة. لقد اتخذ ماكرون خطوات جيدة في هذا المجال.

مثلاً؟

فهم مثلاً أن بوتين ليس مجرّد خصم استراتيجي بل إنه عدو إيديولوجي أيضاً. كذلك أدرك أن هدفه الحقيقي يتعلق بالانتقام من أوروبا وزعزعة استقرارها.

الأكراد

تدرك أوروبا أنها تشهد انحساراً لليبرالية في ظل تصاعد نفوذ الحركات الشعبوية. هل تعكس تلك النزعات تراجع الغرب والحاجة إلى رسم الحدود؟

الأمران صحيحان طبعاً. لكن تتعلق المسألة في العمق بالديماغوجية ومعاداة الطبقات النخبوية والانهزامية الثقافية والتكاسل الديمقراطي. يعني «تراجع الغرب» فعلياً فقدان قدرتنا على الدفاع عن قيمنا الخاصة كما في كردستان.

ما الذي كان يجب فعله من أجل الأكراد الذين هزمهم الأتراك في منطقة عفرين السورية؟

أردوغان لا يطرح تهديداً حقيقياً. كان يمكن أن ندعوه إلى وقف ما يفعله. لكن كان لا بد من التحلي بجرأة تشرشل لفعل ذلك.

حتى الآن يبدو أن أحداً، على الساحة المحلية والعالمية، لا يريد نشوء دولة كردية. هل يحمل نضالك للاعتراف بدولة مماثلة أي معنى اليوم؟

إنه عار حقيقي! في الماضي، كنا نناقش ما إذا كانت تركيا تستحق أن تكون جزءاً من أوروبا. أما اليوم، فيجب أن نفتح جدلاً آخر: هل يجب أن تحتفظ بمكانتها في منظمة حلف الأطلسي؟ أؤكد أن فكرة الخروج من هذا التحالف الاستراتيجي كانت لتُخفف من نزعة أردوغان التوسعية بدرجة كبيرة.

بعد قطر في عهد ساركوزي ثم المملكة العربية السعودية في عهد هولاند، هل كان ماكرون محقاً في الرهان على الإمارات؟

في الوقت الحاضر، أعتبر أبوظبي الجهة الإصلاحية الوحيدة التي تطارد الجهاديين بكل جدية.

كردستان وفلسطين

حول رؤيته العامة تجاه الشرق الأوسط يقول برنارد هنري: «أدعو في الشرق الأوسط إلى إيجاد حل أقل تعرّجاً بكثير». ويضيف: «لا بد من دعم القوى الديمقراطية قدر الإمكان. لذا تبرز حاجة مُلحّة إلى استقلال كردستان».

كان برنارد في عام 2003 أحد المبادرين لإقرار وثيقة جنيف رغم امتعاض اليمين الإسرائيلي. ولكن منذ ذلك الحين، نادراً ما ينتقد حزب الليكود النافذ. ما الذي يحصل؟ يقول في هذا الشأن: «يبدو أنكم لا تسمعون جيداً إذاً! لم أغيّر رأيي بشأن حل الدولتين وصرتُ مقتنعاً أكثر من أي وقت مضى بضرورة أن تمنح إسرائيل السيادة إلى الفلسطينيين. إنها خطوة ضرورية وعادلة وجوهرية».

* ألكسيس لاكروا وكريستيان ماكاريان - ليكسبريس

«تراجع الغرب» يعني فقدان قدرتنا على الدفاع عن قيمنا الخاصة كما في كردستان

أعتبر أبوظبي الجهة الإصلاحية التي تطارد الجهاديين بكل جدية

أوباما ودونالد ترامب وجهان لعملة واحدة
back to top