صانع الحكايات

نشر في 03-04-2018
آخر تحديث 03-04-2018 | 00:00
 ناصر الظفيري لم يعد الوطن سوى أهل وأصدقاء وقبرين لأبوين رحلا قبل أن تنتهي المتاهة التي دخلتها وعليَّ أن أخرج منها بطريقة أو بأخرى. الوطن الذي كان مهد أحلامنا وآمالنا الكبار لم يعد يكترث لحلم طفل لم يُكمل تعليمه كما يجب، أو لم يُكمل تعليمه أصلا. لم يعد يهتم كثيرا ولم أعد أريد منه سوى زيارة عابرة أصافح وجوه أحبابي والتقي الرجل الذي علمني الحكاية. الرجل الذي كان يعتب وهو يذكِّرني بأنني تأخرت هذا العام عن موعدي معه. قال لي "أين كنت؟"، وكان عليَّ أن أستفيد من الدرس الذي علمني، وأخترع له حكاية، كي لا أضج منامه بما حصل فعلا. كنت سعيدا جدا أن يرحل والديَّ دون أن يعايشا آلامي في الجسد والروح. "اعذرني يا أبتي لم يمنحني الثلج فرصة للرحيل".

سأختلق له قصة كالقصص التي اختلقها لي، والتي كنت أرى فيها متعة وكأنني أجالس أحد الحكائين العظام. كنت أقول له دائما لو أن أحدهم علَّمك كيف تقرأ الحرف وتكتبه لكنت أشهر من ماركيز في سحره. ينظر إليَّ وكأنني شتمته بلغة لا يفهمها، بالتأكيد لم يعرف أحدا من هؤلاء الكبار الذين شغلوا الدنيا في سردهم. ما يميزه عنهم أنه كان لي وحدي، وكانوا للجميع. كان يجيد في حياته صناعة القهوة المُرَّة والصبر وسرد الحكايات. يفتعل أحيانا قصة لم ترد على لسان أحد، ليقنعك برأي سيقوله لك لاحقا. وكان ينسى بسرعة حكايته التي رواها، كما ينسى العقل المشغول بصياغة غيرها.

علمني أن أبتعد عن الحقيقة، لأنها ساذجة وسطحية ولا معنى لها، فهي ليست سوى حقيقة لا ابتكار فيها ولا خيال. حين سألته عن والده الذي لم أره، قال لي إنه أيضا لم يره، وكانت تلك حقيقة سطحية وساذجة قد تتكرر لمئات الآلاف من الأبناء الذي وُلدوا لآباء لم يروهم. كان الإبداع وهو يسرد لي حكاية موته. في سنة ما قص عليَّ مغامرة غريبة عن معركة عام 1920 بين قبيلته وجيش غازٍ من الجنوب، وأن والده قاتل في مقدمة الجيش، وكان أول من ضحَّى بحياته. لكن الحكاية التي رواها لم تثبت طويلا، فنسيتها، ونسيها هو أيضا. بعد سنوات من تلك الحكاية سألته السؤال نفسه، فسرد لي حكاية الطاعون الذي فتك بالبشر، فآثر والده أن تنجو الأم بجنينها ويموت هو نيابة عنهم. وكانت ميزته أنه لا يسمح لك أن تسأل سؤالا آخر. وفي آخر مرة كان ينكر أنه تحدث أصلا عن والده الذي مات غريبا في الصحراء دون أن يدفنه أحد، ولا يعرفون سبب موته، وترددت أقاويل ان ذئبا حفر تحت رأسه وانقض عليه، وأخرى تقول إنه مات من لدغة أفعى. توقفت عن السؤال، وتوقف هو عن الإجابات التي يخترعها.

حدثني مرَّة عن أحد أعمامه الذي مات ثلاث مرات، وفي كل مرة يذهبون به للمقبرة يصحو بمنتصف الطريق، وفي الرابعة اضطروا إلى أن يدفنوه قريبا من البيت، كي لا يصحو مرة أخرى. لكن الحقيقة الساذجة أن والده كان يتيما أنجب يتيما وليس له اخوة.

لقد أخذت كثيرا عنك يا أبي، ووزعته في رواياتي، ولم أتمكن من كتابتك كاملا كما أنت فاعذرني. أعرف أنك تريد مني الآن أن أقول لك الحقيقة العارية والتافهة، وتعرف أنني لن أقول لك إلا عكسها، كي لا تكرهنا وتموت فعلا.

back to top