في معركة الفساد

نشر في 27-03-2018
آخر تحديث 27-03-2018 | 00:20
 حسن العيسى يذكر الراحل لي كوان هو (مؤسس سنغافورة وحاكمها الأول) أنه في اللحظة التي يسمح فيها القائد السياسي لدولة ما لجماعاته وحزبه وتابعيه بالإثراء بقصد تقوية مركزه السياسي، عندها سيثبت هؤلاء البطانة والأتباع فسادهم واستنزافهم لأموال الدولة، فيشيدون قصورهم وتنمو تحويلاتهم المالية للخارج ويتخذون لهم الخليلات، وغير ذلك من أشكال الفساد... وبعد ذلك يتمدد هذا الفساد من هذه الدائرة المقربة من الحاكم نحو الأسفل ولشرائح عريضة من المجتمع، ويصبح الفساد معياراً سلوكياً اجتماعياً مقبولاً في تعاملات الناس مع بعضهم.

هذا الحاكم المتسامح مع بطانته المقربة، ليس بالضرورة يعطي الضوء الأخضر للبطانة بالنهب المبرمج من الوظيفة العامة والتكسب من خلالها، إنما قد "يصهين" ويسكت عن تجاوزات شلل الانتهازيين من الحرامية المرموقين حين يسمع بها، يتصرف وكأنه لا يعلم عن تلك التجاوزات، أو يهون من شأنها، وبهذا "السكوت" المدمر واللامبالاة من قبل الحاكم تسير الأمور نحو خراب البلد وضياع مستقبل أبنائه.

برأي الكاتب روبرت روتبرغ (علاج الفساد) أنه في الدول النامية، التي لم تثبت فيها المؤسسات القانونية المستقلة التي تراقب وتعاقب جرائم الفساد، يكون التركيز هنا أكثر على القائد السياسي ووعيه وإخلاصه لقضية وطنه ومستقبله، أحياناً (بل في معظم الأحيان في الدول النامية) لا يكون هذا القائد ديمقراطياً، قد يكون متسلطاً، نزيهاً وشجاعاً ومبدعاً في آن واحد، ويصبح مثالاً ونموذجاً لشعبه في زهده وبساطته وبعده عن البهرجة الإعلامية وجماعات النفاق، ليس بالضرورة أن يكون صاحب "كاريزما" (جاذبية) فمانديلا كانت له كاريزما ومع ذلك كانت دوائر الفساد تحيط بالمقربين منه. لي كوان هو استعمل بقسوة "القفازات المخملية" لفض خلافاته مع المعترضين على سياساته ضد الفساد، فأغرقهم في دعاوى تعويض مالية باهظة.

الإبداع في التفكير ضرورة للقائد السياسي المحارب للفساد، في بوليفيا كان التهرب من الضرائب وفساد الجهاز الضريبي من سمات الدولة، ماذا فعل رئيسها السابق رونالد ماكلين ابورا حين أراد فرض ضريبة على الملكية العقارية، لم يترك للجهاز الإداري الفاسد تقديرها، إنما ترك تقديرها لأصحاب العقارات أنفسهم، بشرط فرض حق الدولة بشراء تلك العقارات بسعر مرة ونصف بعد تقدير أسعار العقار من قبل ملاكها!

قد لا يمكن القضاء على الفساد بكامله، لكن يمكن - في أضعف الإيمان - احتواؤه والحد منه، وهذا لن يكون بالتصريحات السياسية العابرة التي تأتي كرد فعل على مناسبة ما، ثم تتبخر ويتلاشى حماسها ويطويها الزمن، وإنما يتحقق بالعمل الجاد، وبالخطاب المباشر الصريح للقائد مع الناس، يستغل قوة الكلمة والإقناع العقلي، ويستعين بوسائل الإعلام المختلفة لتبرير حملته ضد الفساد.

المعركة ضد الفساد في بلد تسرب به هذا المرض الوبائي لمعظم جسده ليست مسألة سهلة وإنما معاناة وحرب لا هوادة فيها، ومهما طالت لابد من خوضها والاستمرار فيها من المخلصين قبل خراب البصرة، أخطر ما في الأمر هو اليأس من واقع الحال، وتسويق مقولات مثل "الشق عود" أو "خل القرعة ترعى".

back to top