القوى السياسية وراء إقالة تيلرسون

نشر في 24-03-2018
آخر تحديث 24-03-2018 | 00:00
مع أن تيلرسون بذل جهوداً كبيرة لحل الأزمة بين الدوحة ومقاطعيها، فإنه لم ينجح في إزالتها، وإن كان قد ساهم في تخفيف حدتها، غير أن جهوده هذه لم تحظَ بالتقدير في البيت الأبيض بقيادة ترامب، حتى إنها ساهمت في تعميق تكتل غريب ضده.
لقيت إقالة ترامب لوزير الخارجية ريكس تيلرسون الترحيب في أوساط رسمية كثيرة في واشنطن اعتَبرت هذه الخطوة خلاصاً أو ربما دليلاً على إحقاق العدالة، ومن الصعب العثور، مثلاً، على انتقاد أكثر إدانة لتيلرسون مما وجهه إليه الكاتب إليوت كوهين، الخبير في شتى المسائل العسكرية والقائد الميداني لمجموعة تدخلية.

لم يكن كوهين الوحيد الذي يوجه انتقادات قاسية إلى تيلرسون، فقد اتسع نطاق النقد الموجه إليه إلى أن شمل المدونة اليمينية في "واشنطن بوست" جنيفر روبين، وداعم مايك بومبيو بيل كريستول، والصحافي ماكس بوت، وصديق رامسفيلد وصاحب الثقل الدفاعي إريك إديلمان، والمحلل المحافظ الجديد والكاتب روبرت كاغان، ودانيا بليتكا، وكثيرين غيرهم.

لكن مشكلة هؤلاء النقاد لم تقتصر على أن معارضتهم تيلرسون ارتكزت ضمنياً في جزء منها على شكوكهم حول ترامب، فدعواتهم إلى الإطاحة بوزير الخارجية وضعتهم ضمن مجموعة واحدة مع رجعيين متشددين يطالبون بحقوق بدائية، وقد شملت هذه المجموعة فرانك غافني، رئيس مركز السياسة الأمنية المناهض للمسلمين بشدة، وجون بولتون الذي يريد تمزيق الصفقة الإيرانية، وستيف بانون الذي أقر بعرقلة بعض تعيينات تيلرسون حين كان يعمل مع ترامب، وصديق بانون سيباستيان غوركا الذي سخر من تيلرسون علانية، إذ اعتبر هؤلاء أن خطأ تيلرسون الأكبر لم يكن "عدم اطلاعه على سير عمل الدبلوماسية"، بل إيمانه بها في مطلق الأحوال.

لا شك في أن توحّد هاتين المجموعتين يبدو غريباً، إلا أنهما يظلان أقل تأثيراً من مجموعة ثالثة تتألف من عدد من المكاتب الفاخرة في شارع "إم" في العاصمة واشنطن، فقد تحولت منظمة الدفاع عن الديمقراطيات، التي لا تتوخى الربح والتي أنشأها الصحافي المحافظ الجديد كليفورد ماي بعيد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، إلى المؤثر الخارجي الأقوى على الأرجح في البيت الأبيض بقيادة ترامب.

تصف منظمة الدفاع عن الديمقراطيات نفسها بأنها "معهد يُعنى بالسياسة لا ينتمي إلى أي حزب" ومؤسسة لا تتوخى الربح يموّلها خصوصاً مؤيدو إسرائيل اليمينيون أمثال الثري شيلدون أديلسون، الذي يُعتبر حليفاً لصيقاً لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

وعلى مدى عقدين تقريباً بعد تأسيسها، روّجت هذه المنظمة للحرب على العراق، ودقت طبول الهجوم على سورية، وعارضت مفاوضات إدارة أوباما النووية مع إيران، كما مجّدت مزايا بنيامين نتنياهو، وأطلقت في مستهل هذا العقد حملة استهدفت دولة قطر الخليجية الصغيرة التي تملك فيها الولايات المتحدة قاعدة جوية.

قاد حملةَ منظمة الدفاع عن الديمقراطيات ضد قطر نائبُ الرئيس لشؤون الأبحاث جوناثان شانزر، وهو محلل سابق لشؤون تمويل الإرهاب في وزارة الخزانة، وقد كتب بالتأكيد خلال السنوات الثماني الماضية عشرات المقالات التي هاجمت قطر.

ظلت جهود منظمة الدفاع عن الديمقراطيات المناهضة لقطر طوال فترةٍ محدودة التأثير مع تجاهل كبار المسؤولين في البنتاغون هذه الحملة معتبرين أنها "مجرد ضجة".

لا عجب في أن ريكس تيلرسون اصطدم بسرعة بالحصار المفروض على قطر، وبدعم من وزير الدفاع جيمس ماتيس، حاول تيلرسون التخفيف من وطأته، وكما يتضح، لم يأخذ هذا الحصار تيلرسون على حين غرة فحسب، بل تشير بعض التقارير أيضاً إلى أن صهر ترامب غاريد كوشنر كان على علم بخطوات متخذة ضد قطر ولم يبلغه بها، بل على العكس، حض غاريد الرئيس على تأييد هذه الخطوات، وهذا ما فعله ترامب، وعندئذ لم يُصدم تيلرسون فحسب، بل تملكه الغضب أيضاً.

أخبر أحد المقربين من تيلرسون مجلة "أميركان كونسيرفاتيف" آنذاك بأن "ريكس جمع كل الوقائع واستخلص أن هذا الولد الغبي [كوشنر] كان يدير سياسة خارجية ثانية من المقر العائلي في البيت الأبيض، وقد أثر غاريد في ترامب... يا لها من فوضى!".

في يونيو عام 2017، عمل تيلرسون على التخفيف من هذا الحصار وربما إنهائه، كما أمل، شملت جهوده رحلات عدة إلى المنطقة، لقاءات مع قادة الخليج، والضغط على المسؤولين القطريين بغية تنفيذ بعض مطالب الائتلاف المناهض لهم. وقد أخبر مسؤول بارز في البنتاغون، تتبع جهود تيلرسون، "أميركان كونسيرفاتيف" بأن "تيلرسون لم يكل ولم يهدأ... وكل هذا الحديث عن أنه لم يكن دبلوماسياً فاعلاً عارٍ من الصحة. إذ قاد عملية دبلوماسية مكوكية على أقل تقدير"، وأدت جهوده التي شملت طلب المساعدة من دبلوماسيين كويتيين وبريطانيين، إلى توقيع مذكرة تفاهم بين الولايات المتحدة وقطر هدفها وقف تمويل الإرهاب.

ومع أن الجهود التي بذلها تيلرسون تُعتبر جبارة، إلا أنها أخفقت في رأب الصدع بين قطر وجيرانها، وإن كانت قد ساهمت بكل وضوح في تخفيف حدتها، لكن جهود تيلرسون هذه لم تحظَ بالتقدير في البيت الأبيض بقيادة ترامب، حتى إنها ساهمت في تعميق تكتل القوى الغريب ضد تيلرسون.

تُظهر رسائل إلكترونية سربتها شبكة BBC في مطلع شهر مارس أن هذه القوى شملت على الأرجح داعم إريك برينس إليوت برويدي، وهو رجل أعمال أميركي ومتبرع في حملة ترامب يملك علاقات تجارية قوية. تكشف هذه الرسائل أن برويدي التقى ترامب في شهر أكتوبر وأخبره بأن تيلرسون "يقدّم أداء سيئاً وأنه من الضروري إقالته في وقت ملائم سياسياً"، كذلك تصف هذه الرسائل تيلرسون بـ"الضعيف" وبـ"برج الهلام" الذي يجب سحقه.

احتاج ترامب إلى أربعة أشهر أخرى "للإطاحة" بتيلرسون واستبداله بمدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية مايك بومبيو، صحيح أن تراجع مكانة تيلرسون يعود على الأرجح إلى اللحظة التي قيل فيها إنه نعت الرئيس بـ"الأخرق" في شهر أكتوبر، إلا أن العد العكسي بدأ فعلاً في شهر يونيو الماضي حين قرر تيلرسون العمل على عكس الحصار ضد الدوحة. لهذا السبب، بعد ساعات فقط من إعلان ترامب إقالة تيلرسون، نظّم بعض خصومه في الخليج احتفالاً صغيراً.

أُقيمت الاحتفالات أيضاً، على ما يبدو، في مكاتب منظمة الدفاع عن الديمقراطيات، التي بات بإمكان مسؤوليها اليوم المضي قدماً في جهودهم بدون أي عقبات، ومن بين أهدافهم تقويض اتفاق إدارة أوباما النووي مع إيران وإنهاؤه، فبعد ساعات من إعلان إقالة تيلرسون، غرد رئيس المنظمة مارك دوبوفيتز، معبراً عن رضاه: "خبر عاجل: أقال ترامب وزير الخارجية ريكس تيلرسون وسيستبدله بمدير وكالة الاستخبارات المركزية مايك بومبيو". وربط دوبوفيتز هذا الخبر بتقرير لصحيفة "واشنطن بوست" عن إقالة تيلرسون، لكنه بعث أيضاً بهذا الإدخال إلى ثلاثة مسؤولين إيرانيين: "@khamenei_ir"، "@HassanRouhani"، و"@Jzarif"، أي المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، والرئيس الإيراني حسن روحاني، ووزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف.

ولا شك أن مغزى هذه الخطوة الضمني واضح، فما كان دوبوفيتز يتصرف بتهذيب، بل كان يوجّه تهديداً.

back to top