الغرب يخوض حرباً باردة من جانب واحد

نشر في 22-03-2018
آخر تحديث 22-03-2018 | 00:06
 بروجيكت سنديكيت لم تكن التوترات المتصاعدة بين المملكة المتحدة وروسيا سوى دليل إضافي على أن العلاقة بين روسيا والغرب، وفقا للخبير المخضرم ريتشارد ن. هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية، دخلت حالة يمكن اعتبارها "حربا باردة ثانية"، وأنا أميل إلى الاختلاف معه في هذا الرأي.

صحيح أن علاقات روسيا مع الولايات المتحدة، والآن مع المملكة المتحدة أيضا، أصبحت أسوأ مما كانت عليه في خمسينيات القرن العشرين، وأصبح احتمال الصراع المباشر أعلى من أي وقت مضى منذ أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962، ونظرا للتعقيد الذي تتسم به الأسلحة النووية الاستراتيجية والأنظمة المصممة لتحييدها اليوم، لا يستطيع المرء أن يستبعد احتمال استفزاز التصعيد بفِعل تصرف من قِبَل جهة ما على أي من الجانبين، أو طرف ثالث.

وما يزيد الطين بلة أن الاتصالات بين قادة الولايات المتحدة وروسيا منقطعة، بسبب الافتقار إلى الثقة على الجانبين، وبين الأميركيين، تقترب المشاعر تجاه روسيا من الكراهية، وينظر كثيرون في روسيا الآن إلى الأميركيين بازدراء.

الواقع أن هذه الخلفية السيكولوجية للعلاقات الثنائية أسوأ حقا مما كانت عليه أثناء الحرب الباردة، لكن هذا لا يعني أن توترات اليوم ترقى إلى استئناف للحرب الباردة، فمثل هذه المواجهة تتطلب توافر المكون الإيديولوجي الذي يغيب تماما على الجانب الروسي.

الواقع أن روسيا ليس لديها النية لشن حرب باردة أخرى، ورغم أن درجة ما من المواجهة مع الولايات المتحدة تساعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على توحيد الرأي العام في حين تعمل على صقل أوراق الاعتماد القومية للنخب الروسية، فإن روسيا ليست دولة تحركها دوافع إيديولوجية. فكل ما لديها من إيديولوجية يستند إلى الثقافة والحضارة الروسية، وهي غير مهتمة بتصديرها.

والكرملين لا يفضل في حقيقة الأمر التبشير بالنيابة عن روسيا، ولطالما تمحور النهج الذي تتبناه روسيا في التعامل مع الشؤون الدولية حول احترام المصالح الوطنية والسيادة، والاعتقاد بأن كل الشعوب والأمم ينبغي لها أن تتمتع بالحرية في اتخاذ قراراتها السياسية والاقتصادية والثقافية. كما تحتضن روسيا القيم الإنسانية العالمية مثل الثقة في الرب، والأسرة، والوطن، فضلا عن تحقيق الذات من خلال خدمة المجتمع والأمة.

وأنا أتمنى لو كان حتى 2% من الاتهامات حول "التدخل" الروسي في الانتخابات الأميركية في عام 2016 صحيحة، فإن هذا من شأنه أن يعزز من احترامي لذاتي كمواطن روسي، في حين يثقف الأميركيين- الذين دأبت حكومتهم على التدخل في الشؤون الداخلية لدول أخرى- حول مخاطر إلقاء الحجارة من بيت من زجاج.

لكن المشكلة بين روسيا والغرب هي في حقيقة الأمر مشكلة بين الغربيين أنفسهم، إذ تستخدم المؤسسة الأميركية فزاعة التدخل الروسي لاستعادة سيطرتها السياسية المفقودة، وخاصة في عالَم وسائط التواصل الاجتماعي، حيث وجد السكان الساخطون والساسة المستقلون الأحرار صوتا لهم أخيرا.

ولكن حتى لو تمكنت النخب الأميركية من استعادة السيطرة، فسيظل المصدر الأعمق للرهبة والخوف الغربي قائما، فعلى مدار العقد المنصرم على الأقل، شهد العالَم الفصل النهائي من هيمنة الغرب التي دامت خمسمئة عام، وبدأ الأمر في القرن السادس عشر، عندما طورت أوروبا الأسلحة النارية والسفن الحربية وبدأت توسعها الإمبراطوري، وفي القرون التالية استخدم الأوروبيون هيمنتهم الاقتصادية، والثقافية، والسياسية، والعسكرية بشكل خاص، لنهب ثروات العالَم.

على مدار بضعة عقود في النصف الثاني من القرن العشرين، تحدى الاتحاد السوفياتي والصين موقف الغرب المهيمن، ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، برزت الولايات المتحدة باعتبارها القوة المهيمنة الوحيدة، وبدا الأمر وكأن العالَم يعود إلى وضعه الراهن التاريخي، ولكن سرعان ما أفرطت الولايات المتحدة في التوسع والامتداد من خلال الانغماس في مغامرات جيوسياسية مأساوية مثل غزو العراق. ثم جاءت الأزمة المالية في عام 2008، والتي كشفت نقاط الضعف التي تعيب رأسمالية القرن الحادي والعشرين.

في الوقت نفسه، دأبت الولايات المتحدة على ملاحقة التفوق العسكري، وفي عام 2002 ألغت من جانب واحد معاهدة الصواريخ المضادة للقذائف الباليستية (ذاتية الدفع). وفي وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، شرعت في تكديس كميات هائلة من القوات التقليدية وتحديث ترسانتها النووية على نطاق واسع.

ومع ذلك، لن تسمح روسيا والصين وبقية العالَم بالعودة إلى الهيمنة الأميركية، وقد أوضح بوتين هذا الأمر مؤخرا بإزاحة الستار عن عدد من أنظمة التسليح الاستراتيجي المتطورة الجديدة، كجزء مما قد أسميه استراتيجية "الردع الوقائي"، وكان ملخص الرسالة أن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تأمل استعادة التفوق العسكري المطلق، حتى إذا قررت استنزاف نفسها في سباق تسلح، كما فعل الاتحاد السوفياتي من قبل.

تشير التقديرات الأولية التي توصلت إليها مع زملائي مؤخرا إلى أنه حتى لو قررت الولايات المتحدة شن حرب باردة من جانب واحد، فإن فرصها ضد روسيا والصين والقوى الناشئة الأخرى لن تكون جيدة للغاية، فقد تحول ميزان القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية ببساطة بعيدا عن الغرب إلى الحد الذي يجعل عكس اتجاه هذا التحول مستحيلا.

ومع ذلك، فإن الحرب الباردة الجديدة، حتى إن كانت أحادية الجانب إلى حد كبير، قد تكون بالغة الخطورة على البشرية، وينبغي للقوى الكبرى في العالَم أن تركز على تعزيز الاستقرار الاستراتيجي الدولي من خلال الحوار؛ وإعادة فتح قنوات الاتصال بين المؤسسات العسكرية؛ واستعادة قدر من الكياسة والرشاقة للتفاعلات الجارية بينها، كما ينبغي لنا أن نفكر في إقامة المزيد من التبادلات الدبلوماسية والتشريعية والأكاديمية والتثقيفية. وفي المقام الأول من الأهمية يتعين علينا أن نكف عن شيطنة بعضنا.

الواقع أن العالَم يدخل فترة بالغة الخطورة، ولكن إذا تحرينا الحكمة في تصرفاتنا، نستطيع أن نعمل سويا على بناء نظام دولي أكثر توازنا، نظام تردع بموجبه القوى الكبرى بعضها في حين تتعاون على حل المشاكل العالمية. من ناحية أخرى، ستصبح الدول الأصغر حجما أكثر تحررا وقدرة على التطور وفقا لأفضلياتها السياسية والثقافية والاقتصادية. لقد انهار النظام السابق الذي قاده الغرب، ولضمان مستقبل سلمي، يتعين علينا أن نبدأ العمل معا لبناء نظام جديد.

* سيرغي كاراغانوف

* عميد مدرسة الاقتصاد الدولي والشؤون الخارجية في كلية الدراسات العليا لعلوم الاقتصاد في الجامعة الوطنية للبحوث في موسكو، والرئيس الفخري لمجلس السياسة الخارجية والدفاع في روسيا.

«بروجيكت سنديكيت، 2018» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top