جورجي زيدان!

نشر في 17-03-2018
آخر تحديث 17-03-2018 | 00:19
 د.نجم عبدالكريم يكتب في مذكراته هذه الحادثة:

"كنت أسمع عن كتاب مجمع البحرين، وكنت أحب اقتناءه، لكنه كان مرتفع الثمن 4 فرنكات أو 5 على ما أظن، وفي ذات يوم كنت جالساً في مطعم والدي، فمر غلام وبيده هذا الكتاب –مستعملاً– يعرضه للبيع، فاشتريته منه بتسعة قروش بيروتية، وفرحت به أيما فرح، ولما رجع والدي سألني عنه، فأخبرته أني اشتريته بتسعة قروش، فغضب وأخذه من يدي وقذف به، قائلاً: أتدفع في هذا الكتاب تسعة قروش وتبدل الدراهم بورق؟!... فحزنت أشد الحزن، ولما انصرفنا إلى البيت كانت الوالدة قد أعدت لنا العشاء، وتظاهرت أني لا أريد الطعام وذهبت للنوم، وكنت أتوقع أن يدعواني ولا يتركاني أنام جائعاً، وسمعت والدتي تعنف والدي لإغضابي حتى نمت بلا طعام... واتفق أن جاء أمين فياض للسهرة عند والدي، وسأل عني، فقيل له إني نمت، لكن والدتي اغتنمت الفرصة وشكت إليه أن أبي أغضبني، فسأل صديق والدي عن السبب، فقال له بغضب: إنه يصرف الدراهم في شراء الورق! فأجابه صديقه: اشكر الله يا صديقي أبا جورجي، أن ابنك ينفق الدراهم في شراء الكتب... إنها نعمة يجب أن تشكر الله عليها".

***

• فأصبح جورجي زيدان واحداً من كبار مؤرخي العرب في الحضارة الإسلامية والحضارات الإنسانية، بما تركه من آثار جُمعت في مجلدات غدت من أهم المصادر والمراجع للدارسين والقراء، خلال القرنين الماضيين.

• ترك جورجي زيدان بيروت قاصداً القاهرة لدراسة الطب، فلم يتمكن من ذلك، إذ وجد نفسه في عالم الكتابة والصحافة، فعمل محرراً في جريدة الزمان، وأتيح له مرافقة حملة نيلية إلى السودان عام 1884 كمترجم، فاستفاد من هذه التجربة كثيراً، مما دفعه إلى القراءات الواسعة في اللغات، فتعلم السريانية والعبرانية، وعكف على دراسة اللغات السامية والشرقية الأخرى، مما هيأه أن يحتل عضوية المجمع العلمي الشرقي.

• ولما زار إنكلترا عام 1886 مكث طويلاً بين متاحفها ومكتباتها الشهيرة، وحين عاد إلى مصر تولى جورجي زيدان إدارة مجلة المقتطف، ثم استقال ليتفرغ للتأليف والكتابة، فكتب "تاريخ مصر الحديث"، الذي لم يكن كتابه الأول، إذ سبقه "الفلسفة اللغوية"، وكذلك روايته "المملوك الشارد"، ثم توالت مؤلفاته لتشتمل على العديد من الموضوعات التاريخية والاجتماعية مثل: التاريخ العام، تاريخ الماسونية، تراجم مشاهير الشرق، أنساب العرب، علم الفراسة، طبقات الأمم، عجائب الخلق... والكثير مما لا يتسع المجال لذكره.

• ثم غدا جورجي زيدان، الذي استكثر عليه والده 9 قروش لشراء كتاب، من أكثر الكُتاب العرب الذين كتبوا ثروة من إنتاج الثقافة العربية والإسلامية والإنسانية!

• سلطنا ومضات من الضوء على واحد من المبدعين العرب الذين أخذوا يتناقصون واحداً بعد الآخر، حتى كادت الساحة الأدبية العربية تخلوا من نظرائهم، بينما تُتخم حياتنا الثقافية بكل ما هو هزيل وسخيف وتافه.

رحم الله جورجي زيدان.

back to top