كان غداً

نشر في 17-03-2018
آخر تحديث 17-03-2018 | 00:00
No Image Caption
كنا سعداء. ستسألني ما هي السعادة وساجيبك: لا أعرف.

ينبغي أن اخبرك القصة من بدايتها. فالقصص لا تفهم إلا إذا حكيت بداياتها. لا يهم من أين تبدأ بالقص. المهم أن تنتقي بداية. أن تقول من هنا بدأت الأشياء. أن تكون مقتنعًا بأن كل ما سيحدث بعدها- إن حدث- انطلق من هذه البداية، وأنّ كلّ ما حدث قبلها مهّد ليصل إليها.

سأنتقي بداية لحكايتي، تشبه المداخل الهانئة لأشهر القصص.

قبل اندلاع الحرب، عشت في بيت أهلي الكائن في سوق الغرب، قرب عاليه. كان أبي قد توفّي في أوائل السبعينيات وهاجر أعمامي وأولادهم إلى البرازيل، ولم تكن الصراعات تعقدت بعد. وبالرغم من أنني لم أكن منتسبًا رسميًا لأي طرف سياسي، إلا أن انتمائي إلى عائلة كبيرة في الضيعة ساعدني على تجنب الكثير من المشاكل. كانت علاقاتي بمختلف الأطراف في سوق الغرب والضيع المحيطة جيدة.

وقتها، لم يكن يسكن المنزل إلا أنا وأمي. وماما كانت قليلة الحركة ولا تتكلّم كثيرًا. كنت أنتقل بها في زوايا البيت الكبير على هذا الكرسيّ المدولب الذي تراني أجلس عليه. كانت تبقى جالسةً عليه في الشرفة، وتحدق في حشائش الوديان، وتسمع أصوات العصافير والزيزان، وكنت دائمًا أعتقد أنها تنصت أكثر مما تنظر، ولهذا ربّما لم تكن تتكلم كثيرًا، لأن إنصاتها يتطلب صمتها.

كان بيتنا يطل على رأس بيروت. وكنا نسمع الأصوات العميقة القادمة من العاصمة. سوق الغرب لم تكن بعيدة عن الحرب كما تعرف. فالبلدة ستأكل نصيبها بعد سنوات، عندما تصير من المناطق المركزية التي شملها الاجتياح الإسرائيلي، ثم حرب الجبل، انتهاءً بالكر والفر للسيطرة عليها حتى أواخر الثمانينيات.

لكن لم قفزت إلى مثل هذه التفاصيل؟ استعجلت الرواية؟ فلنسمه شرحًا للظروف. لكنّك تعرف هذا كلهّ، أليس كذلك؟ ألست صحافياً؟

حسنًا، سأحاول البدء من جديد.

بعد اندلاع الحرب في منتصف السبيعينيات، صرت ألازم المنزل أكثر، فأرعى ماما وأكلمها، ولو لم تردّ عليّ. لكن، بعد تدهور الأوضاع، صار لزامًا علي أنا الشاب الذي تخطى منتصف ثلاثينياته، أن أقوم بمشاوير واتصالات لحماية ممتلكاتنا المنتشرة في أكثر من منطقة، إذ كانت تجارتنا العائلية عابرة لحواجز التماس. ولما لم يكن ممكنًا أن أترك ماما وحدها، جئت بمجموعة مسلحين ووزعتهـم على مداخل البيت الحجري، وطلبت من صديقي في البلدية أن يأتيني بامرأة لتعتني بأمي.

كنت أجول في المناطق بحماية أمنية. أنت تعرف. للحروب دائمًا قوانينها الخاصة، ومعرفتك بهذه القوانين تخوّلك أن تنجو بحياتك في أقسى الأيام، وأن تتابع عملك، بل أن تربح وتستمر. كان يمكن مثلاً لعدوين أن يشتريا أسلحة من الوسيط نفسه، ليقوّصا بها على بعضهما. وكان يمكن للعبث أن يصل أيضًا إلى حد إيقاف إطلاق النار في محور، لإمرار أناس دفعوا ليعبروا من منطقة إلى أخرى. كانوا يحظون بمواكبة من طرف أول يسلمهـم إلى طرف ثانٍ يوصلهم إلى وجهتهم النهائية، وما إن تعبر المواكب حتى تتواصل التسلية الليلية، ويعود القواص.

أنا نفسي كنت أدفع. أمر من منطقة لمنطقة، وأدفع.

كثرت انتقالاتي بين المناطق. كنت أوكل مهمة حماية الأملاك لمجموعة مسلحين، تمامًا مثلما فعلت في بيتنا، وأحرص على التحدث مع المسؤولين عن أمن المناطق التي تقع فيها الأملاك، فأتواصل مع هذا وذاك، وأدفع الخوّات. وبسبب سوء الأوضاع، كنت أبقى أحيانًا محتجزًا في منطقة لأسابيع غائبًا عن المنزل.

وفي مرّة، غبت شهرين كاملين، وعدت، فرأيتها. كانت تجلس قرب أمي في الشرفة، وعرفت أنهما تتحدثان من دون كلام. فهمت أمي أكثر، وصرت أميل لتصديق فكرتها التي لم تقلها: {النظر أصدق من الكلام}.

كنت أحدق فيهما من الخلف، بينما تنظران إلى الأحراج غير منتبهتين لوجودي. رمتنا الوديان بأصوات الانفجارات، ثمّ حل الصمت من دون سابق إنذار. وخيل إليّ لحظتها أني عرفت ما أريد، وأني صرت أعرف نفسي أكثر.

كان اسمها جانيت.

لم تمض أيام كثيرة قبل أن اتحدث مع جانيت. كنت أومئ لها، وأشكرها لعنايتها بوالدتي، وأدعوها لتناول الغداء معنا، وكانت تعتذر دائمًا، وتكتفي بهز رأسها وتختفي في عتمة الغرف.

وكانت تحضر معها ابنها الذي يبلغ تقريبًا الخامسة فيمسك بذيل ثوبها، ويلحقها أينما ذهبت، فتجلسه قربها على البلاط، وتعطيه لعبة تشغله عنها أو تنيّمه على كنبة قريبة، إلى أن تنهي عملها.

وفي يوم، عدت مبكرًا عن الموعد الذي أعلمت به مسلّحيّ. إذ كنت أظن أني سأغيب عن المنزل شهرًا، لكني أنهيت جولاتي في أقل من أسبوعين.

دخلت بسيارتي مدخل البيت، لأجد مسلحًا من المسلحين خارجًا مع ابن جانيت. سألت الشاب إلى أين يذهب بالولد، فقال إنه يصطحبه إلى الدكان ليشتري له كيس بطاطا. استفسرت منه إن كان يفعل ذلك بطلب من أمه، فاستغرب المسلّح سؤالي، وسأل عن هويتي. عرّفت عن نفسي بأني صاحب المنزل، فرحب بي الشاب وبدا عليه الارتياح. قال إنه لا يعرف الولد ولا أهله، وإنه وجده بين المسلّحين تحت البيت.

صعد الشاب الطوابق، ودق على باب البيت، فلم يفتح له أحد. أطلّ زميل له كان نائمًا عند الدرج، وقال إن الست الكبيرة - قاصدًا أمي – نائمة، وإنها لا تستطيع فتح الباب بنفسها. سأله الشاب إن كان الولد الذي مع المسلحين ابن الست، فضحك زميله وأجاب أن الست الكبيرة عجوز، وأن أحدًا غيرها لا يسكن المنزل، وأنها أّمّ صاحب البيت، ثم استدرك قائلاً إنه جديد هنا.

عاد الشاب إلى جمع المسلّحين. لم يظن أن سؤاله إيّاهم عن أهل الولد ستكون فكرة جيدة. فهو يعرف كيف سيتصرفون معه. سيطلبون منه أن يهتم بشؤونه وألا يتدخل. وقد يتفاقم الموضوع لعراك هو بغنى عنه، ولاسيما أنه لم يكمل أسبوعه الأول في العمل.

فكر الشاب أن رد فعل المسلحين سيكون مغايرًا، إذا ما ادعى أنه مسؤول عن الولد، وأن عليه أخذه إلى أهله. نفذ خاطره، وانتشل الولد من بينهم، وقرر مرافقته مشيًا إلى مدخل البيت، إلى أن يظهر أهله. عندما ابتعد عن المسلحين، سأل الولد عن اسم عائلته، لكن الأخير لم يجبه، فآثر اصطحابه إلى الدكان في الساحة، لعل صاحب المحل يعرفه.

سألت المسلح عن اسمه، فردّ: {سليمان}. شكرته وقلت له إني أعرف أم الولد، وإنها تعمل عندي في المنزل، ثم طلبت منه أن يدخل الصبي إلى سيارتي، وأن يتابع طريقه إلى الدكان ليأتي بكيس البطاط الذي وعده به، وأن يلاقيني بعدها في المنزل.

كان يفصل بين المبنى والمدخل طريق عشبية تمتد ما يقرب من كيلومتر واحد، قدت معظمها على مهل. بل إني كنت أتوقّف وأسلمّ على المسلحين. انتبهت عندها أن بيتي بات أشبه بثكنة عسكرية، وأن الأمر زاد عن حدّه.

back to top