قوانين الذاكرة وأكاذيب القومية

نشر في 13-03-2018
آخر تحديث 13-03-2018 | 00:06
 بروجيكت سنديكيت حظي القانون المثير للجدل، الذي سنه الحزب الحاكم في بولندا في الآونة الأخيرة، وهو حزب القانون والعدالة (PiS)، باهتمام كبير في جميع أنحاء العالم بسبب تجريمه بعض التعبيرات مثل "معسكرات الإبادة البولندية"، لكن القانون أكثر من مجرد وسيلة لجعل المواطنين يقظين بشأن ما يقولونه.

ينص القانون على أنه يجوز فرض غرامة على الشخص أو سجنه مدة تصل إلى ثلاث سنوات بسبب "علانية ومخالفة الوقائع" المخصصة للمواطنين أو للحكومة البولندية "مسؤولية أو مسؤولية مشتركة في الجرائم النازية"، أو "في جرائم أخرى" تشكل جرائم ضد السلام أو جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب.

صحيح أن "الجرائم النازية" ارتكبها النازيون، ولا ينبغي إلقاء اللوم على البولنديين، وبالمثل، على الرغم من أن معسكرات الإبادة النازية كانت موجودة في بولندا، فإنها لم تكن بولندية على الإطلاق، ولكن هذا دليل على "جرائم أخرى" ينبغي أن تهمنا.

والحقيقة هي أنه في العديد من الأماكن في أوروبا الشرقية، أدى وصول القوات الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية إلى اندلاع فوري لمعاداة السامية، فتم قتل العديد من اليهود على يد جيرانهم أو الشرطة المحلية، وأحيانا كانوا يطيعون الأوامر الألمانية فقط، في حين كانت النازية هي العامل المحفز لعمليات القتل هذه (التي شملت المذابح في جميع أنحاء أوروبا التي تسيطر عليها ألمانيا، وخصوصا في أوروبا الشرقية)، هل النازيون هم المسؤولون الوحيدون على عمليات القتل هذه؟

إن حكومة حزب القانون والعدالة في بولندا هي أبعد ما تكون عن أنها أول من أدخل "قوانين الذاكرة" لإعادة تشكيل الروايات التاريخية من خلال تجريم بعض البيانات عن الماضي. توجد مثل هذه القوانين في نحو 30 دولة أوروبية، وكذلك إسرائيل وروسيا ورواندا وتركيا. تم لأول مرة إدخال القوانين التي تجرم إنكار المحرقة أو غيرها من الجرائم ضد الإنسانية- أكثر أنواع قوانين الذاكرة شيوعا- في الثمانينيات والتسعينيات في الديمقراطيات الأوروبية الغربية التي شاركت في تلك الجرائم، بما في ذلك النمسا وفرنسا وألمانيا، وفي حين أنه من المستحسن استخدام القانون الجنائي بهذه الطريقة، فليس هناك شك في نوايا الأشخاص الذين يقفون وراء هذه الجهود: لحماية ذاكرة الضحايا، مع الاعتراف بالمسؤولية المشتركة والندم على أفعال الماضي السيئة.

كما حظرت بعض دول أوروبا الشرقية إنكار الهولوكوست (محرقة اليهود من قبل النازيين)، لكنهم اعتمدوا أيضاً قوانين الذاكرة ذات الغرض المعاكس بشكل أساسي: لمحو الروايات الوطنية عن طريق نقل المسؤولية عن الفظائع التاريخية بالكامل إلى الآخرين، سواء ألمانيا هتلر أو الاتحاد السوفياتي في عهد ستالين، وقد طبقت بولندا قانونا من هذا النوع في عام 1998، وهناك معايير مماثلة في جمهورية التشيك وهنغاريا ولاتفيا وليتوانيا. ومن خلال حجب الدور الذي يؤديه السكان المحليون في الجرائم الشيوعية والنازية، تساعد هذه القوانين على تقديم الروايات القومية، والتي يمكن أن تكون عملية جدا للسياسيين الذين يسعون إلى الحصول على الدعم الشعبي، وفي الوقت نفسه، حصل حزب القانون والعدالة على دعم انتخابي كبير، ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى استغلاله لمآسي الماضي لتحقيق أهداف سياسية.

هناك حالات أكثر تطرفا من حالة بولندا، ففي روسيا يمنع قانون 2014 أي انتقاد لسياسة ستالين خلال الحرب العالمية الثانية، وفي تركيا يحظر قانون عام 2005 إبادة الأرمن في ظل الإبادة الجماعية للإمبراطورية العثمانية. تختلف هذه القوانين اختلافا جوهريا عن قوانين الذاكرة في أوروبا الغربية، لأنها تحمي بذكاء ذاكرة المجرمين، وليس الضحايا، من الجرائم التي ترعاها الدولة.

وبطبيعة الحال، لا يمكن اعتبار تركيا، ولا سيما روسيا، ديمقراطية، كما أنها ليست عضوا في الاتحاد الأوروبي، لكن بولندا- وحكومتها أيضا- تعمل الآن بنشاط على حماية ذاكرة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، رغم أنهم كانوا مواطنين لا موظفين حكوميين يعملون باسم حكومتهم. وليست هذه هي المرة الأولى التي يحاول فيها حزب القانون والعدالة تطبيق قانون من هذا النوع، ففي عام 2008 اقترح الحزب قانونا يعاقب على "التشهير ضد الأمة البولندية"، بما في ذلك الاتهامات بشأن تورط البولنديين في الجرائم النازية والشيوعية، وقد أبطلت المحكمة الدستورية للبلاد هذا القانون لأسباب إجرائية.

وقد ظهرت قوانين الذاكرة في الديمقراطيات القديمة في أوروبا الغربية كوسيلة لتعزيز الحقيقة والسلام والمصالحة، ولكن في محاولة لتجنب المآسي المستقبلية، ربما تشكل هذه الدول سابقة خطيرة، والآن أصبحت قوانين الذاكرة واحدة من الأدوات المفضلة لدى القوميين الشعبويين الذين يحاولون تعزيز قوتهم، وتحريض النوع نفسه من القومية المعادية للأجانب التي كانت ذات يوم أرضا خصبة للمحرقة.

* نيكولاي كوبوسوف

* أستاذ زائر في الدراسات الروسية والأوروبية الشرقية في جامعة إيموري. «بروجيكت سنديكيت، 2018» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top