المرافعة الشفوية في المحاكم

نشر في 06-03-2018
آخر تحديث 06-03-2018 | 00:24
 محمود العروسي أكد فطاحل رجال القضاء والمحاماة وفقهاء القانون، أن المحاماة عريفة كالقضاء، مجيدة كالفضيلة ضرورية كالعدالة، وإن المحامي يكرس حياته لخدمة الجمهور والناس دون ان يكون عبدا لأحد أبدا، وإن المحاماة تجعل المرء نبيلا من غير طريق الولادة أو الميراث، غنيا بلا مال، رفيعا دون حاجة الى لقب، سعيدا بغير ثروة.

وأول ما أشير اليه في مقالي هذا أن سببه بمناسبة حضوري محاكمة في إحدى دوائر الجنايات أمام القضاء الكويتي العظيم، ومشاهدتي وسماعي مرافعة شفوية من محام كبير في القيمة والقامة (ع.ح) أمام قاض من فطاحل رجال القضاء الكويتي، أكد فيها كلاهما أن المرافعة الشفوية شرط لازم لحسن سير العدالة، ونتيجة حتمية لعلانية إجراءات المحاكمة العادلة والمنصفة.

وقد بدأ هذا المحامي مرافعته وهو يعمل على توفير أدلة البراءة بالنسبة للمتهم، بما يؤكد - الى جانب رسوخه في القانون - مدى اطلاعه الواسع خارج القانون، فيما يستعرضه أمام هذا القاضي من جوانب فنية تتعلق بموضوع الاتهام المسند الى موكله، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى، كان القاضي ينصت لسماع تلك المرافعة الشفوية وهيئته المهيبة تؤكد أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تؤمّن له فيها الضمانات لممارسة حق الدفاع، وأنه منذ أن تطرح أوراق القضية عليه في مرحلة المحاكمة يكون القاضي محايدا في تصرفاته وقراراته، متجردا فلا ينحاز، عادلا لا يظلم، مستمسكا بحق المتهم في حريته وما كفله الدستور والقانون له من ضمانات، كما يؤكد هذا القاضي الجليل، أن الإثبات في المواد الجزائية يحكمه مبدأ إجرائي إصلي، وهو أن الأصل في الإنسان البراءة وقرينة البراءة ضمانة مطلقة ومن أهم نتائجها:

(1) عدم التزام المتهم بإثبات براءته، لأن ذلك أمر مفترض فيه.

(2) التزام النيابة العامة بإثبات وقوع الجريمة قانونا ومسؤولية المتهم عنها.

(3) الدليل القاصر أو الدليل غير الكافي يوجب القضاء ببراءة المتهم، لأن الشك ينبغي أن يفسر لمصلحة المتهم.

وقد ازداد انتباهي (مع دهشتي) عندما رأيت هذا القاضي، وهو يسجل نقاط الدفاع ويمليها على أمين سر الجلسة (السكرتير)، وكأنني أراه يمسك بميزان العدالة للوزن بين أدالة النيابة العامة والأدلة المطروحة عليه من المحامي في دفاعه عن موكله، وذلك من أجل وصوله إلى الحقيقة، بيقين يؤكد براءة المتهم أو إدانته، واضعا في اعتباره أن اليقين الجازم هو اساس الإدانة، فيقين القاضي هو أساس كل العدالة الإنسانية، وهو مصدر ثقة المواطنين بهذه العدالة.

وإنه اذا كان يوجد احتمال واحد من بين الاحتمالات التي استخلصها من الأوراق المطروحة عليه يفيد البراءة، فلا حكم بالإدانة، لأن الشك يفسر لمصلحة المتهم. وبمعنى آخر أن عدم قدرة أدلة الإدانة على إحداث اليقين الجازم في عقيدته يترتب عليه استمرار حالة البراءة التي يكفي لتأكيد وجودها مجرد الشك في ثبوت الإدانة.

وبعد أن خرجت من القاعة وجدتني أسطر هذا المقال، مناشدا كل رجالات الأسرة القضائية من قضاة ووكلاء النيابة العامة والمحامين بوجوب الحرص على المرافعات الشفوية في قاعات دوائر محاكم الجنايات، فمثل الذي رأيته يؤكد حقيقة شدد فيها فطاحل رجال القانون من أنه مهما كانت القوانين صحيحة وسليمة أو كانت سيئة وهزيلة، فلابد من قاض عادل حتى تتحقق العدالة، فالقضاء لا يطبق نصوصا جامدة، لكنه يطوع روحها لخدمة حقوق المتهمين، ولا ينزل سيف القانون أو يهوي بعصاه الغليطة إلا على الضالعين في الإجرام والذين استعبدهم الشيطان واستمرأوا إيذاء الناس والإضرار بمصالح مجتمعهم.

وفي هذا المقام، وعلى هدي ما ذكر، أستعرض قضية قتل مع سبق الإصرار والترصد من واقع ملفات دوائر محاكم الجنايات الكويتية تتضمن من جانب الجهد المبذول من الدفاع لأجل تحقيق غايته في الحصول على براءة المتهمين، ومن جانب آخر تتضمن تقدير عدالة المحكمة لأوجه الدفاع والدفوع الموضوعية والقانونية أثناء مباشرتها لنظر وقائع القضية من أجل القضاء ببراءة أو إدانة المتهمين، وتضمنت الوقائع ما مفاده أن المجني عليه تعرف على المتهمين اللذين يبلغ أحدهما سن الثامنة عشرة، والآخر تجاوز الثامنة عشرة بعدة شهور، ومن عام سابق على واقعة قتلهما المجني عليه، كان قد استدرج المجني عليه أولهما الى مكان، حيث اعتدى عليه بالضرب، متعمدا ومعتمدا على فارق السن والقوة البدنية، وأمره بوضع ملابسه وهتك عرضه، وبعد ذلك استدعاه الى منطقة صحراوية، وبعد ضربه أمره بوضع ملابسه، وصوره بآلة تصوير فوري عاريا، وكذلك استدرج الثاني الى منطقة صحراوية وصوره عاريا وهتك عرضه، وظل يهددهما بالصور التي حصل عليها، كما أراد أن يفسق بأحدهما ويصحبه الى البر، ويهتك عرضه، حتى ضاقت نفس أولهما مما يعاني من خزي، فهاتف الثاني طالبا لقاءه لأمر مهم، فطلب منه أن يحضر الى ديوانيته، وهناك شكا الأول للثاني ما كان من أمر المجني عليه، فأخبره الثاني أن مثل هذا الأمر وقع له من المجني عليه.

ونظرا لما عايناه من خزي وعار، وأن المجني عليه قد أذل رجولتيهما بتفوقه على كل منهما سنا وبدنا، قد اتفقا على قتله خلاصا مما لحقهما، وذلك بأن يخبر أحدهما الآخر اذا استدعى المجني عليه أيهما أن يقتلاه بسلاحه الناري الذي يحتفظ به دائما في سيارته، وفي مساء ذات اليوم التقى المتهمان، وبعد ذلك اتصل المجني عليه بأولهما هاتفيا، فأخبره بأن الثاني برفقته، فطلب منهما اللقاء وحضر إليهما بسيارته، وتولى هو قيادتها ومعه الاثنان، وتوجهوا جميعا الى البر، وهناك أوقف المجني عليه سيارته، وجلس الى جوار المتهم الثاني، بينما جلس المتهم الأول بالمقعد الخلفي، وفي تلك الأثناء طلب منهما هتك عرضهما، فاستجابا، وأثناء استغراقه في لذته الشاذة البشعة النكراء خلقا وشريعة، غلبه النوم، فاستدار رأسه الى الباب الأيمن للسيارة، وهنا سحب المتهم إحدى البندقيتين اللتين كانتا على المقعد الأمامي لسيارة المجني عليه، وأطلق منها عيارين صوبهما من مسافة لا تقل عن نصف متر، أصاب أحدهما رأسه، وأصاب ثانيهما ملابسه، وفور ذلك تسلم منه المتهم الثاني السلاح، وصوب عيارا الى رأس المجني عليه، فأصابه قاصدين قتله، وأحدث به إصابات بالرأس أحدثت كسورا بعظام الجمجمة وتهتكا المخ أودت بحياته.

وقبض على المتهمين، وأحالتهما النيابة العامة الى المحكمة بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار، بأن عقدا العزم وبيتا النية على التخلص من المجني عليه، وما إن واتتهما الفرصة وانفردا به حتى أطلق عليه كل منهما عيارا ناريا، قاصدين من ذلك إزهاق روحه، فحدثت به الإصابات التي أودت بحياته.

وبجلسة المحاكم أمام القاضي الفطحل (والذي رأيته شخصيا يومئذ وكأنه مكتوب على جبينه أنه إذا كان قانون الجزاء عنده نصوص جامدة، فهناك خالق من سن هذا القانون، هناك الله العادل)، وترافع المحامي وأكد أن المتهمين كانا في حالة دفاع شرعي على سند من أن المتهمين كانا واقعين تحت سلسلة متصلة من أفعال المجني عليه المتمثلة في واقعات هتك العرض، ولم تتوقف لحظة وقوع حادثة قتله، فذلك يؤدي الى أن تظل حالة الدفاع الشرعي قائمة، فضلا عما دفع به من انعدام ظرف سبق الإصرار، وبعد أن حجز القاضي القضية للحكم، انتهى الى الحكم على المتهمين بالتقرير بالامتناع عن النطق بالعقاب، مؤكدا انتفاء ظرف سبق الإصرار، فإنه من المقرر أن سبق الإصرار يستلزم أن تسبق الجريمة فترة من التفكير تكفي لأن يدير الجاني أمر ارتكاب الجريمة في هدوء وروية، ويقلب الرأي فيها عقد العزم عليه مقدرا ناظرا الى عواقبه، وأن مناط قيام سبق الإصرار ان يرتكب الجاني الجريمة وهو هادئ البال، وإن كان ذلك، فالثابت بالتحقيقات أن المتهمين كانت تلاحقهما فكرة إذلالهما وتهديهما المتلاحق بفضح أمرهما، ولم يجدا من طريق إلا قتله، وظلت تلاحقهما الفكرة وتسد عليهما سبل التفكير الهادئ المطمئن، ولا شك في أن الضغوط النفسية تزداد في حضور المجني عليه الذي أتاهما مسلحا ببندقيتين، فإنه لا يمكن القول إن تلك الظروف مجتمعة أتاحت لهما سبل التفكير الهادئ، الأمر الذي ينتفي معه ظرف سبق الإصرار الى آخر ما تضمنه الحكم من حيثيات.

back to top