قلب الأستاذ

نشر في 05-03-2018
آخر تحديث 05-03-2018 | 00:00
 فوزية شويش السالم "قلب الأستاذ" هي ثاني رواية أقرأها للكاتب الياباني نتصميه صوسك، والأولى كانت روايته الشهيرة "الفتى الطائش"، والثانية لا تقل شهرة عن الأولى، وتعتبر رواياته من الأدب الياباني الكلاسيكي، فكاتبها ولد عام 1867 في طوكيو، وعندما تخرج في الجامعة عمل مدرسا لفترة من الزمن، ثم سافر في بعثة دراسية إلى إنكلترا عام 1900، واشتغل في صحيفة الشروق، وهي أكبر الصحف اليابانية 1909، وتوفي عام 1916.

لعل أكثر ما يميز كتابته في الروايتين هو التأمل البطيء للعواطف وللسلوك الإنساني وطبيعة البشر، والغوص العميق الدقيق في التفاصيل الحياتية بكل أبعادها، لذا تتطلب من قارئها طول النفس والصبر، لأنها تحفر نصها الإنساني ببطء شديد، وبتأمل تشريحي مجهري لأبسط أمور الأحداث الحياتية العادية، لكنها في النهاية تمنح القارئ صورة واضحة وفهما كبيرا لتركيبة نفسية المواطن الياباني، ونهج تفكيره، وطريقة تعامله مع من حوله ومع نفسه بالدرجة الأولى.

المبهر والمتميز في الرواية هو السمو والتعامل بدرجة كبيرة من النزاهة والنبل والشرف، إلى درجة القصاص من النفس، وإحساس عال بالمسؤولية ومحاسبة الذات، والقدرة على جلدها والتجرد منها، ذكرتني بحياة الفرسان والأزمنة العربية القديمة حين كانت الكلمة وحدها تعني شرف الصدق والأمانة.

الرواية لا تحمل تعددا في الأزمنة ولا في الأمكنة ولا حتى في الشخصيات، كل ما هنالك طالب في جامعة طوكيو يعجب برجل ياباني حين التقاه على أحد الشواطئ يحدث رجلا أوروبيا يرتدي "شورت" قصيرا يُظهر صدره وبقية جسمه، ويبدو أن الكشف عن الجسد بارتداء ملابس البحر لم يكن معتادا عليه في ذاك الوقت، ومن هنا يبدأ الطالب في تعمد التقاء الرجل الياباني، الذي أطلق عليه اسم الأستاذ، رغم أنه كان رجلا متجهما طوال الوقت، ومع هذا أصر الطالب على الالتقاء به والتقرب منه حتى نشأت بينهما رفقة وصحبة، استطاع الطالب فيها الوصول إلى معرفة السر الذي يعذب قلب الأستاذ.

ومع أن السر لم يكن يحمل كل هذه الفداحة التي جعلت الأستاذ يقدم على الانتحار، مثلما فعل صديقه الذي شاركه في حب الفتاة التي أبعده عنها حين سبقه بخطبتها، رغم معرفته بحب صديقه لها، مما جعله يقدم على الانتحار.

وفي أغلب العلاقات لا يؤدي مثل هذا الحدث إلى فداحة هذا الشعور بالذنب لدرجة محاسبة الذات بالجلد اليومي الذي ينتهي بالانتحار، لكن من خلال الحوارات والتأملات الذكية التي تغوص في أعماق النفس البشرية لتحلل كل تصرفاتها ومعرفة أسبابها، ومعاقبة النفس بالتطهر من الشعور بالذنب بالانتحار.

الرواية قدمت مشاعر السمو والنبل والشرف في يابان القرن الماضي، ولا أدري كم تبقى منها في اليابان الحديثة، لكن لا أظن أن الاختلاف بين الزمنين كبير، فالشعب الياباني ما زال محتفظا بعاداته المختلفة والمتميزة عن بقية الشعوب الأخرى، ولعل هذا راجع كما كتب مترجم الرواية ماهر أحمد محمد الشربيني، المتخصص في دراسة اللغة اليابانية، إلى نقاط مهمة في شخصية الياباني، هي:

أولا: ليس لدى الياباني أي مشكلة، وبالتالي لم يتعود على مواجهة المشكلات، فأصبح ضعيف النفسية، لذا يقدم على الانتحار عندما لا يجد حلا لمشكلة ما.

ثانيا: الصمت، فالياباني إنسان صامت متقوقع لا يبوح ولا يكشف عما في داخله، كالصندوق الأسود.

ثالثا: طول الصبر، فالياباني طويل الصبر، لذا يجب على القارئ أن يتحلى بالصبر عند قراءة الادب الياباني.

رابعا: القرار المفاجئ، فالياباني يتخذ قراره دون سابق إنذار وغير قابل للنقاش، صادم لكل من حوله، يصدر ما فكر به عقله داخليا.

خامسا: التنفيذ السريع، فالفكرة التي خمرها عقله لفترة طويلة، لا تتأخر في التنفيذ.

سادسا: الياباني لا يتراجع عن تنفيذ قراره مهما حاول من حوله ثنيه وتغيير مساره.

هذه التأملات والتحليلات الذكية لشخصية الياباني تنطبق تماما على بطل الرواية، وربما على أبطال معظم الروايات اليابانية بشكل أو بآخر، وتعطي صورة واضحة لمعنى ومفهوم الأخلاق والمسؤولية.

وهذا مقتطف من الرواية: "ليس صحيحا أن فكرك وماضيك ليست بينهما علاقة، أنا أحترم فكرك ولكنه جاء من ماضيك، وإذا فصلنا فكرك عن ماضيك فلن يكون لفكرك قيمة، سوف يكون فكرك مثل دمية ليس فيها روح، وبالتالي لن يجعلني ذلك الفكر أشعر بالرضا".

back to top