حبر و ورق

نشر في 03-03-2018
آخر تحديث 03-03-2018 | 00:02
No Image Caption
هلوسات أليانا ميلر

بالتزامن مع اشتداد لهيب معركة ستالينغراد، ودخول آلاف الأسرى الروس ومن قوى المعارضة من شعوب أوروبا ويهود ألمانيا وبولندا إلى معسكرات الاعتقال النازية، كانت أليانا شلوموفيتش ميلر تمسك بيد يانا طفلتها، والقابضة هي الأخرى وبشدة على يد أخيها أوري، وعلى الأغلب أن أليانا الشابة التي تجاوزت الثلاثين عاماً بقليل، كانت تميل برأسها على كتف أفي شلوموفيتش... والدها المدثر بمعطف صوفي أسود فاخر لا يليق بطقس الساحل الفلسطيني الذي بات على مرمى بصرهم. فمن على ظهر السفينة غادول التي حملتهم من أوروبا، كانت عينا أليانا ترى وللمرة الأولى معالم مدينة حيفا التي انعكست عليها شمس صباح تشريني ممطر دافئ. صادف ذلك الصباح

1942-11-19 حين تقدمت أليانا خلف أفي شلوموفيتش الوالد المبجل إلى شباك الجوازات والجمارك في ميناء حيفا.

كانت إجراءاتهم أسرع مما اعتقدت واستعدت له، لم تكن تصدق أذنها وهي تسمع كلمات الترحيب من كبيرهم. كان إنجليزياً طويلاً عريض المنكبين، أحمر الوجه، كث الشاربين. لم يطل الأمر به حتى أعاد لأفي وثائق السفر وهو يشير بأدب إلى بوابة الخروج حيث الازدحام المطلق عند حافلات حديثة الصنع، وموسومة بأرقام علمت أليانا فيما بعد أنها أرقام رمزية للكيبوتسات التي تقرر أن يتوجه إليها القادمون الجدد وحسب ما ارتأته الوكالة.

كانت أليانا تراقب هذا المشهد ببرود وتنتظر أن يتحرك السيد الوالد نحو إحدى هذه المركبات كي يصلوا إلى مبتغاهم، لكنه ظل واقفاً بلا حراك. أشعل تبغ غليونه المعطر وبقي واقفاً ينتظر شيئاً ما دون أن تحثه أليانا على السير نحو آخر حافلة رأتها تتحرك ببطء وتغادر الميناء. فهي ومنذ أن غادروا على عجل قصرهم المنيف في ضواحي برلين تحت جنح الظلام لم تسأله ولم تناقشه مطلقاً، كانت تعرف وبيقين تام أن الوالد سيصل بها وباِبنيها إلى بر الأمان، أما إلى أين فهذا ما كانت تجهله؟ لكنها لم تصدق أنها ستصل أرض الميعاد. ظنت أنهم سيتجهون إلى الولايات المتحدة أو كندا وفي أسوأ الحالات إلى الأرجنتين.

شريط طويل من الذكريات والصور مر أمامها، بدأ بصورة قاتمة لسلفانا والدتها وهي تسرع مبتعدة عن القصر بصحبة ضباط الأمن الألمان الغستابو، لكن الوالد المبجل أفي قطع الشريط بجملته المعهودة لها: «أليانا لا تقلقي». لكنه أضاف إليها هذه المرة: «لا تقلقي، فسرعان ما نصل إلى مقصدنا خلال ساعتين أو أقل».

في تلك اللحظة أرادت أليانا أن تشكره وتطبع قبلة حارة على جبينه، لكنها رأته يشير إلى سيارة مرسيدس سوداء حديثة الصنع اقتربت من الرصيف وتوقفت أمامهم تماماً. كانت أليانا تسمع السائق يقول لأفي وبالإيديش: نحمان دوري من الوكالة اليهودية بخدمتك سيد أفي شلوموفيتش، تفضل بالركوب أنت والعائلة، أهلاً بك في أرض الميعاد.

لعل السيدة أليانا، لم تستعد قدرتها على التفكير إلا بعد أن أصبحوا بعيداً عن الميناء والمدينة، حينما صارت ترى بحراً أزرق صافياً على يمينها، وشمساً تسطع بأشعتها على المركبة يساراً مع انعكاس لامع فوق كم هائل من الأراضي المكسوة بأشجار البرتقال وثمارها. كانت تسمع السائق يقول بإنجليزية طليقة: «مستر شلوموفيتش، كم من الوقت تحتاجون كي تستريحوا في تل أبيب؟».

ويتمهل أفي قبل أن يجيب مخاطبه وبالإيديش، فقد استرق نظرة سريعة حزينة إلى أليانا والطفلين، ورأى آثار المشقة والتعب بادية على وجوههم.

- أظن أننا بحاجة إلى ساعتين وأكثر قليلاً للراحة والغداء، أفهمتني.

- نعم سيدي، فهمتك.

هكذا يرد نحمان وهو يهز رأسه ويصمت احتراماً للخواجا أفي الذي أوصته به الوكالة كثيراً، فهذا الكهل الأشيب الجالس في الخلف وبتواضع، شخصية مهمة تعوّل عليه الوكالة كثيرا لرفدها بالأموال اللازمة حينما تدق ساعة الاستقلال.

أما السيد أفي فقد ألقى برأسه إلى الخلف سعياً لإراحة جسده المنهك، بينما غفا الطفلان وأمهما التي اكتفت بما رأت عيناها للمرة الأولى من سحر الشرق؛ الدفء والطبيعة الخلابة خلافاً لثلج أوروبا وبردها القارص، واستغرقت في النوم عميقا وهي تفكر بأجدادها الذين غادروا الشرق كما حدثتها جدتها لأبيها ربيكا رابوتنسكي. كانت هذه الأفكار قد عشّشت في رأسها رغم ما بذله جوزيف ميلر لإقناعها أنهم وثنيون أوروبيون اعتنقوا اليهودية قبل قرون طويلة. لكن أليانا أبت أن تصدقه، وظلت تحلم بوطن حر مستقل لكل اليهود، لكن أفي قطع نومها وحلمها وهو يسألها:

- أليانا بنيتي، أريدك أن تقرري وخلال الأيام القليلة القادمة أين تريدين السكن؟ هنا على الساحل الدافئ الرطب في تل أبيب التي سترينها خلال دقائق، أم في أورشليم الجافة الباردة، لكن برودتها ليست كبرلين أو وارسو، وقد تمر سنوات طويلة قبل أن يرى أولادك الثلج والجليد.

أجابت وبلهجة جادة وبألمانية راقية لا يفهمها الكل، كأنها أرادت ألاّ يفهمها السائق نحمان: «المهم أنت، صحتك وعملك، فأنت من يقرر أين سنسكن، برأيك هل سنستقر هنا إلى الأبد أم سنعود إلى برلين بعد أن تنتهي هذه الحرب اللعينة؟».

أجابها أفي بسرعة ودون تفكير كأنه أعدّ جوابه مسبقاً: «بنيتي ربما يطول الوقت حتى تنتهي هذه الحرب ويزول هذا الكابوس المسمى هتلر وحزبه النازي، ويعم السلام. عندها سيكون لنا حديث آخر، سنرى المشهد وسنفكر في الأمر، إنها مسألة شائكة. فأنا لا أستطيع ولا بأي شكل أن أتخيل الدولة والنظام بعد رحيل هتلر، ربما تتحسن الأوضاع وتزدهر الأعمال، أرجو ذلك»!

ولم يطل الأمر حتى بدأت أليانا، ترى بلدة صغيرة، بيوتها ليست جميلة كبيوت برلين، لا طابع خاصاً لها فهي ليست شرقية ولا غربية، رأتها بلدة هجينة غريبة قبل أن تسمع نحمان يقول لأفي: «سيدي سأقف أمام فندق الكونتينانتل، ستجد مائدة الغداء جاهزة باسمكم حسب طلب السيد حاييم مدير العلاقات العامة بالوكالة، سأعود بعد ساعتين لأنقلكم إلى أورشليم».

وترجل بسرعة من السيارة ليفتح بابها لأفي، تاركاً أليانا تفتح باب السيارة الخلفي بنفسها.

تقول السيدة أليانا لسارة مشعالي مديرة مكتبها لاحقاً: «كم فوجئت بهذا الفندق الفخم، وهذه الوجبة الرائعة التي تناولناها بعد أن غسلت أنا والأولاد وجوهنا وأيادينا في حمام من السيراميك الأبيض اللامع. كان صعباً عليّ أنا القادمة من برلين معقل الرأسمالية والحضارة، فمجرد التفكير بوجود مثل هذه الأشياء الفخمة في الشرق عام 1942 يعتبر ضرباً من الجنون».

بعد هذه الوجبة من الطعام الشرقي، والنبيذ المعتق الفاخر القادم من أقبية دير اللطرون يقوم أفي ويتقدم من جديد ابنته وحفيديه نحو السيارة، حيث كان نحمان بانتظاره ليفتح للخواجا باب السيارة الخلفي مبدياً كثيراً من الاحترام. لكن أفي اعتذر عن الجلوس في المقعد الخلفي وقرر الجلوس بجانب نحمان، ولسانه يردد بالإيديش: «أريد أن أرى الطريق إلى أورشليم بكل تفاصيلها وأيضاً كي تجلس أليانا والولدان براحة وليروا الطريق إلى أورشليم بوضوح أيضاً».

في تلك اللحظات، التقط عقل أليانا مشهداً شاملاً لتل أبيب، وكان يستعد بقوة لرسم صورة لأورشليم بأروقة تلافيف دماغها الصغير، والمنفتح على مصراعيه لتلقي صدمة حضارية، وللتعامل معها كما يجب. استمر دماغها يعمل دون توقف حتى رأت السائق نحمان يخرج يده اليسرى من شباك السيارة، ويشير بها إلى مطار اللد. كانت ترى أمارات التعجب والدهشة على وجه أفي وهو يرى مدرج المطار قريباً من الطريق وقريباً جداً، لكن طمأنينته لم تطل فقد قطع الصمت والهدوء أزيز حاد لسرب كبير من الطائرات بدأت تهبط بالمطار الواحدة تلو الأخرى.

عندها قال نحمان: «أظنها طائرات للحلفاء عائدة من قصف جوي بعيد لأهداف نازية».

لم يُعلّق أفي، بل غرق في صمته المعهود، وظل يتابع الطريق ونحمان لدقائق لم تزد عن خمس عشرة حتى بدأ الأخير يصعد بمركبته الطريق التي أخذت شكلاً آخر حاداً وبأقصى سرعته، معتذرا من أفي متعللاً برغبته بالوصول إلى أورشليم قبل الغروب، وهذا ما حصل فقد توقف أمام فندق الملك داود قبيل الغروب بقليل عابراً المدينة من غربها إلى شرقها ولم يكن الظلام قد حل بعد، فتمكنت أليانا من رؤية الأحياء والشوارع والمحال ولاحظت أبنيتها الكبيرة وفللها الحديثة فكاد صدرها ينشرح لهذه المدينة، لولا جوها البارد غير المناسب لأفي الذي يعاني من التهاب دائم بمفاصل ركبته، فلم تحزم أمرها، وقررت أن تنتظر اليوم التالي، وتقوم بجولة على الأحياء اليهودية التي يفضل ألاّ يبتعدوا عنها، فهم الآن في الحي العربـي رغم وجودهم في الفندق الفخم وبهذا الجناح الذي لا يوحي إنه في الشرق.

- أبـي ماذا ترى في هذه البلاد؟

تسأل أليانا أفي بالألمانية.

يسرح أفي بعيداً للحظات ثم يهمس لاِبنته بالإيديش:

- الأمل موجود، لكننا بحاجة إلى جهود جبارة، ربما بعد خمسين عاماً أو أكثر سيتمكن جيلي والأجيال التي ستأتي بعده وبعدك من جعل هذه البلاد تشبه برلين أو فيينا. سأشرب قليلاً من البراندي بعد العشاء الذي طلبته ثم أخلد للنوم، ربما نتابع حديثنا غداً بعد اجتماعي الهام بفرع الوكالة اليهودية هنا وتكونين خلاله أنهيت جولتك الحرة بالمدينة المقدسة مع نحمان حيث سترين أحياءها اليهودية من مشيرم.. ومحنه يهودا.. والجامعة العبرية المعلم المهم لنا بهذه المدينة. والآن وقبل أن تنامي عليك أن تتأملي أورشليم القديمة، وتري أهم معبد للمسلمين خارج الجزيرة العربية.

فتجيبه أليانا بالألمانية وكأنها تصر على عدم استخدام الإيديش في حديثهما:

- نعم، إني أراه من هنا، وأظن أنهم يعتقدون أن نبيهم قد صعد إلى السماء من هذا المعبد كما ورد في كتابهم المقدس القرآن، أليس هذا ما درسناه عن دين محمد في جامعة فيينا، ألا تذكر أني حدثتك بذلك؟

- نعم، أذكر ذلك. يقول أفي ويضيف: وأتذكر ما علقت به أمك سلفانا حينها وهي تتهم عقولنا بالتفكير اللامنهجي واللاعلمي. ويضحك أفي ويتابع حديثه: لربما هو صحيح ما قالته تلك الحمقاء التي لم تتنكر لدينها فحسب بل جاهرت بفكرها الشيوعي وأين... في جامعة برلين؟ كان الرب في عونها، وأرجو لها النجاة من الموت والعذاب في ذلك المعسكر الذي ساقوها إليه. ويشهد عليّ رب إبراهيم وموسى، إنني بذلت الكثير من الأموال كي لا تساق إلى غرف الموت بالغاز.

فتسأله أليانا فوراً:

- أين هي الآن؟ أما زالت تعمل خادمة في مطبخ المعسكر؟

فيجيبها أفي بيأس:

- ربما، لا أعرف.

بَيت حُدُد

مجموعة من الشباب، بمحاذاة برج العرب على الجميرة، يتحلقون حول طاولة وفوقهم مظلة يحدقون في البحر بدهشة. يمسك أحدهم خرطوم الأركيلة وينفث دخانه وهو في حالة استلاب، ويعتدل الثاني في جلسته ويزيح النظارة الشمسية عن عينيه، بينما ينفخ الثالث زفيزا كأنه لا يصدق ما تراه عيناه.

يحدقون في مجموعة من الفتيات ممشوقات القوام يخرجن من الماء وهن مبتسماتٌ يتمايلن بمياسة وغنج.

تلحظ الفتيات ذهول الشباب فيتهامسن ويضحكن، ويتابعن المسير بمحاذاتهم.

لكن الشباب يبقون في حالة تركيز في شيء ما في البحر من دون أن يعيروا الفتيات أيّ اهتمام، فيلتفتن إلى الخلف، وتصيبهن حالة الذهول ذاتها التي أصابت الشباب.

مخرت البحر ثلاثة يخوت في منتهى الفخامة، متهاديةً على مهل.

يصرخ فيديل في هذه اللحظة بصوت غاضب:

-ستووووب.

تتبعثر انفعالات الوجوه المصطنعة ليحلّ مكانها الامتعاض الصامت.

يتقدّم فيديل من فريق العمل ويعطي توجيهاته الحازمة. يطلب إعادة المشهد، ويتحوّل أكثر من خمسين فنياً وعاملاً إلى خليّة نحل.

يرن هاتفه الجوال فيجيب بودٍ:

- أهلين سيد عمران.

- لا، مستحيل إقدر هلق إطلع من موقع التصوير. إذا فيك تأجّل لبكرا.

- طيب أفضل شي تعال لهون. حدّك مو بعيد. راح إبعتلك العنوان، وبنحكي.

وفي أقلّ من نصف ساعة كان رجل الأعمال عمران في موقع التصوير، حيث يعمل فيديل عبد الله.

يعلن فيديل بالمكروفون: استراحة نصّ ساعة. ويستدير مرحباً:

- أهلين دكتورنا

-على طول مشغول مخرجنا العظيم، رد دكتور عمران.

- منفضّيلك حالنا. خبرني دكتور: شو هالشي الما ببتأجل لبكرا؟

-إنت مستلم كل الإعلان لمشافينا بالخليج. محتاج تنزل ع الشام. افتتاح مشفى سما الشام بعد أسبوعين. بيديره واحد من أهم أصدقائنا، الدكتور سعد، وبصراحة بدّي حملة من تحت إيديك للترويج للمشفى كسياحة علاجيّة. المشفى الأول بالشرق الأوسط بالجودة الطبية وبالأسعار.

- قلت لي النزلة عالشااام!!

- إيه فيديل.

- بس يمكن ما خبرتك من قبل دكتور إنو أنا ما فيني إنزل لأنو صوفتي حمرا عند الأمن.

- شو هالحكي، شو عامل؟

- قصة قديمة من أكثر من 18 سنة قبل ما روح على بريطانيا.

- إسمع فيديل. أنا ما بعرفك شخصياً، بس من خلال الشغل إللي إنت مشتغلو معنا أو مع غيرنا إنت موهوب ومعروف، ومن المعيب تقدر تزور كل بلدان الدنيا بس ما تقدر تزور بلدك.

ضحك فيديل بمرارة:

- سيّد عمران، عمّا تخبّرني إلي؟ خبرهم إلهم لجماعة المخابرات. لا بيرحموا ولا بخلوا رحمة الله تنزل.

- بتسمح تخلّيني جرب شوف الوضع؟ عندي بعض الأصدقاء الجيدين بالبلد. ومنشوف شو إمكانية زيارتك لسورية. إبعتلي بياناتك.

بدت علامات الضّيق على فيديل. أراد أن يقفل هذا الموضوع:

- بشكرك من قلبي، بس بعتقد ما في أمل . حاولت أكثر من مرّة وما نفع. على كل، فوراً حإبعتلك ماسيج بالمعلومات:

فيديل عبد الله، مواليد ريف دمشق، 21 آب 1974. اسم الأب توفيق. اسم الأمّ فاطمة.

غادر السيد عمران المكان، تاركاً فيديل في مزاج سيئ، فعاد إلى العمل بقسوة، محولاً الساعات المتبقية للفريق إلى جحيم من الطلبات والإعادات، ولينهي يومه بصحبة إحدى فتيات الإعلان في شقّته الكائنة في أبراج بحيرات الجميرة. فلا يهدئ صخبه الداخليّ إلا ليلةٌ جنونية من الليالي التي يتقن إخراجها بانتظام.

- فيديل . بدي سميه فيديل.

صاح أبي بعد أن أخبرته الداية بأن المولود ذكرٌ سليمٌ ومعافى، ولا أثر لمتلازمة داون عليه...

وصحب هذا الإعلان امتعاض خالي الشيخ محمود:

-لكن فيديل اسم نصرانيّ.

- لا حبيبي، فيديل هو فيديل كاسترو العظيم . لا نصرانّي ولا بيعرف الله تبعكم كمان.

وانطلق يملأ الكؤوس ويحتفل بصخب مع أصدقائه الشيوعيين بقدوم وليّ العهد معافًى، بعد ابنتين سليمتين وذكر يحمل متلازمة داون.

أمي، التي تخضع عادة لشطحات أبي، الأستاذ توفيق عبد الله، مدرس الرياضات الشيوعي الصاخب، همست لأخيها الشيخ الطيب مواسية بعد أن استعاذ بالشيطان الرجيم من كفر الأستاذ التنح يابس الرأس، حين دخل ليبارك ابن أخته ويرفعه ويكبر في أذنه ويدعو له بالصلاح:

- دعك منه سيكون اسمه فضل، فهو فضل من الله عز وجل.

وبين رغبة أبي في أن أكون محاميا مثل كاسترو، وتمنيات أمي بأن أكون داعية وشيخا مثل أخوالي، نشأث باسمين. ولما بلغت العاشرة، كان خالي يجاهد كي يحفظني القرآن الكريم، ويلهب أبي مخيلتي بقصص غيفارا وكاسترو وثوار العالم وأناشيد الحرية. وتنتهي كل النقاشات بين أبي وخالي بصلية شتائم من أبي، وبموجة غضب ووعيد بالحرق في نار جهنم من خالي، مع كمية من اللعنات على الشيوعية والملحدين المتجبرين بأن يريهم الله عجائب قدرته.

لم يستجب الله للشيخ حمود، لكن المخابرات السورية هي التي استجابت. فاعتقل أبي المعارض اليساري المزمن لمدّة أربع سنوات، جعلت مني أمّي خلالها، بمساعدة أخوالي، شيخاً صغيراً بعد أن استفردوا بي بغياب الأب الضال.

اكتشف أبي موهبتي بالرسم، فحولتها أمي إلى موهبة في الخط العربيّ وأقنعني خالي بأن التشخيص حرام. أتقنت حفظ نصف القرآن، وما يفوق مئتي حديث شريف. قرأت السيرة النبوية لابن هشام و»الأغاني» لأبي فرج الأصفهاني، وألفية ابن مالك، وأصبحت العبقريّ الصغير في اللغة العربية والتاريخ والديانة، ومثار إعجاب كل المدرسة. وبلحية لم تمسسها شفرة حلاقة. دخلت الثانوية العامة إماماً صغيراً، وفقيه البلدة، وشيخَ أمي التي كنت أكبر أمام عينيها كما رسمت دائماً في مخيّلتها. غير أن اسمي في الهويّة وسجلات النفوس بقي له رطانة السحر اليساريّ: فيديل.

خرج أبي من المعتقل كأنه كبر عشرين عاماً. حطموه، لكن لم يكسروه. ما آلمه هو ما آلت إليه حالتي. شعر بالخيانة وطعنة في الكبد. ولم يستطع أن يشهر غضبه كما هو متوقع منه، لأن أخوالي صانوا بيته وحمونا من العازة وذل السؤال في غيبته الطويلة.

طرده النظام من التدريس وصنفه خطراً على الجيل الصاعد، فانطلق إلى قطعة الأرض المحيطة ببيتنا يعمل فيها بكدّ. فكنا حين نستيقظ أنا وأختاي وأمي لصلاة الصبح، نسمعه يتمتم بكفريات لا تنتهي.

وتحوّل بعدها إلى صامت وحيد. يعزق أرضاً بوراً ميتة ويفلحها، غارساً بضع شجيرات في عقمها.

يأكل وحيداً، ويعمل وحيداً، وبالكاد يتبادل الحديث مع أي كان. ترافقه ربعيَّة العرق التي يشربها كل مساء في جوار البيت أو على السطح، ونادراً ما يزور أحداً أو يزوره أحد من أصدقائه القدامى.

ومع انهيار جدار برلين وبداية البيريسترويكا، كان الحلم الأحمر قد جفّ وتحول إلى أصفر باهت. أصبح نحيفاً بوجه حرثته الغضون متآكل الأسنان.

back to top