«حكايتي شرحٌ يطول»

نشر في 27-02-2018
آخر تحديث 27-02-2018 | 00:00
 د. نجمة إدريس "حكايتي شرحٌ يطول"... احتفال بالحياة وبالموت، وشرحٌ للنفس وطبيعتها. هكذا يقدّم الناشر "رواية" حنان الشيخ، التي هي في الأصل سيرة حياة أمها "كاملة". وما بين "الرواية" و"السيرة" تندغم الحدود، ويلعب فن القصّ والخيال وغبش الذاكرة لعبته الآسرة، متحدياً التجنيس وشروطه النظرية. وحين لا تكون الحكاية حكاية الكاتبة، وإنما حكاية أمها، فإن مساحة أخرى من العاطفة تتمدد، ومساحة من فارق الزمن، ومساحة من الصنعة والذائقة الأدبية، تصنع جميعها أمجاداً أخرى لسيرة كانت ذاتية فأصبحت فنية، وكانت فصولاً من حياة فأصبحت كتاباً يُقرأ.

الحكاية مكتوبة بصوت الأم "كاملة". واجتهدت الكاتبة أن يكون الصوت تلقائياً وعفوياً، تماماً كما كانت تسمعه، وهي جالسة تسجل لأمها عبر آلة التسجيل. وبذلك حافظ الأسلوب على شخصية الأم الاعتبارية. شخصية المرأة المرحة، المتوهّجة بالظرف والشقاوة، المندفعة نحو الحب واللهو والحياة، رغم الموانع والزواجر، التي احتالت عليها بكل ما أوتيت من ذكاء وعناد. وهي فوق ذلك جميلة امتلكت الفتنة، وعاشت بالشغف لكل ما هو محرّم وممنوع في بيئة زاجرة متوعّدة، فانطلقت نحو شغفها بقلب جسور، رغم ما نالها من أذى، وتبعت الحب حتى آخر أشواطه، غير عابئة بشروط الزوجية أو قيود الأمومة.

هكذا تنطق "كاملة" من قعر فطرتها البسيطة دون قناع، ومن واقعها الحيّ الذي صنعته الأيام دون رتوش. بل حتى أمّيتها وعدم معرفتها بالقراءة والكتابة، جعل من روايتها للأحداث نسخة بكراً ضاجة بالظرف وحسّ الفكاهة، وخاصة حين تحضر باللهجة المحكية الضاربة في عمق المكان وزمانه.

لم تكن حياة "كاملة" في الحقيقة غير مزيج من الشقاء والشظف والعَنَت. ذاقت اليتم والتشرد رغم وجود أبويها، وعرفت الفاقة والعيش على حافة الحياة، وآذتها العلاقات المهلهلة والمجبولة على النقص في محيط الأهل والعائلة. زُوّجت رغماً عنها في العاشرة من العمر لزوج أختها المتوفاة، وكأنها منذورة لتصحيح أخطاء العالم ورتق ثقوبه، ثم عاشت للحب كفراشة متهافتة، تروح وتغدو، إلى أن حطّت على منبع ضوئها، بعد عراك وطلاق، وانفصال عن ابنتين أحبتهما عن بُعد، وحملت حسرة هذا الانفصال في المقتبل من عمرها.

وهكذا نقف إزاء مفارقة نادرة، تكاد تكون هي ثيمة الكتاب الأساسية، وهي المفارقة التي تمثلها "كاملة" في موقفها من الحياة. فهي رغم أكوام البؤس التي شابت سيرتها، تبدو ساخرة من كل ذلك، منطلقة نحو المرح، مستبدلة الضحك واللهو بالهموم الثقيلة، والإقبال على الأغاني والأفلام بالتجهّم وصفاقة الأيام. كانت ببساطة تفلسف الشقاء، وتحتال عليه بما امتلكت من تمرد فطري، وأنوثة فيّاضة أعانتها على مصالحة العالم والفوز بأجمل ما فيه.

وكما تصالحت "كاملة" مع حياة ناقصة، تصالحت كذلك مع الموت وهي تراه يقترب. فتبدو تارة لامبالية، وتارة آملة، أو ساخرة من وضعها المَرَضي، ومحفّزة لنكات وضحكات لا تنتهي. تقول في أحد المواضع التمثيلية: "ثم أدخل المستشفى لأيام طويلة، وأصبح وأنا على سرير المرض كالسلعة في دكان؛ يفلشني طبيب، ويعود يقلبني آخر، فأصحو بعد غياب لا أعرف مدته، وأجد نفسي من غير كيلوت، والممرضة تحاول أن تُدخل فيَّ أنبوباً ونربيشاً. ورغم وضعي المخجل هذا تفيض قريحتي وآخذ بالغناء: خبيناك خبيناك... وحافظنا عليك... وهلّق الرايح والجاي بيتفرّج عليك.... ".

في الرواية/ السيرة الكثير من الوقفات حول مكان الأحداث وزمنها. وهذا التوجه يؤسس لشيء من التأريخ للبيئة اللبنانية في الجنوب، ثم في بيروت، ولظاهرة الهجرة من الريف الطارد إلى المدينة الممتلئة بتحديات العيش، خاصة في مطلع القرن العشرين. وكذلك يضيء جوانب معتمة للعلاقات الإنسانية المعقّدة، لأثر الفقر، لوضع المرأة، للتقاليد والأعراف، ولبعض ملامح الحياة السياسية آنذاك، وأدوات الثقافة كالسينما والأدب وتداولهما.

هكذا تكون حياة الأفراد مرايا متعددة الوجوه، تضعهم في حالة تكامل مع شبكة حياة أوسع مدىً، وهكذا كانت "كاملة" مكمّلة للمشهد العام، ومترائية خلاله.

back to top