ما قيمة هذا الوطن؟

نشر في 26-02-2018
آخر تحديث 26-02-2018 | 00:00
 فوزية شويش السالم ماذا يعني هذا الوطن؟

تأتي إلى الدنيا تجد هذا الوطن... تغادر الدنيا... موجود هذا الوطن...

وجود كتحصيل حاصل.

لم نفكّر فيه... لم نحلم فيه...

هو وجود موجود كأنه موجود للأبد...

فجأة تكتشف أن هذا الوجود غير موجود.

أخّ... كفّ على الوجه... صفعة على الوعي... ولكمة للخدر.

للمرة الأولى أدرك بفجائعية... ماذا يعني لي هذا الوطن، لأول مرة أدرك أنه أنا، دمي، عصبي، أولادي، أسرتي، ذاكرتي، وانني أعشقه إلى هذا الحد، وأنني مريضة بهواه إلى هذا الحد.

وأنني يتيمة ومفطومة من حضن أمي...

وأن الدنيا صغيرة إلى هذا الحد...

«والدنيا دون أم لا تسوى شيئاً»·

هكذا قررت البقاء بلا إرادة الوعي أو التصميم...

بقيت، لأنني بكل بساطة لم أعرف كيف أترك حضن أمي...

قامرت بوجودي ووجود أولادي بلا وجود رجل معنا كسند وكحماية.

أكلنا الخوف وأكلناه...

شربنا الفزع وشرِبناه...

تزلزل البيت فوق رؤوسنا، وتزلزت أرواحنا داخل القفص.

كانت السماء تتلاحق فيها كرات النار، والرصاص لا يعرف متى يهدأ.

كان الموت بسهولة مزحة، أو نكتة عابرة في النسيان.

اكتشفنا معاني البيانات، وتعرّفنا على الأسلحة...

عرفنا أن البيوت بإمكانها أن تكون ثكنات... لم لا والجنود جيران لنا؟

وأمام البيوت ممكن جداً أن تتجوَّل في الشارع الأنيق دبابة...

غير مهم ما تفعله بالإسفلت، وما ترجف به قلوب الناس...

المهم هو استعراض الفيل في سيرك البهلوانات.

تعلّمنا كيف نعيش دون كهرباء... من دون هاتف... من دون تلفزيون... من دون غذاء نظيف... من دون استحمام... وأن نخيط أكياس رمل ونعد الكمامات.

تعلّمنا أن نعود للعصر الحجري، وأن نعيش على الكفاف، وأن نتهادى كسرة الملح.

وأن نعبد وطناً اسمه وطننا، وإن كان بحجم رأس دبوس على خارطة العالم.

لا شروط لحب الأم...

نحن نحبها بكل أشكالها وأحوالها... صغيرة، كبيرة، قاسية، حنونة، جميلة، قبيحة، حبّاً مقدّساً غير مشروط...

لم أرَ في حياتي إنساناً لا يعبد أمّه...

ولم أرَ في حياتي إنساناً يكره وطنه...

مهما كان هذا الوطن... إن عاش فيه أو لم يعش.

فكل المهاجرين يعشقون أوطاناً لم يروها... أوطاناً لم تمنحهم لقمة الحياة، ومع ذلك يتبقّى ذاك الانتماء دائماً للأم.

والانتماء يعني هوية... يعني أن نكون... أن يكون لنا وطن...

ولأجل أن يكون لنا وطن...

كان يجب أن نقاتل لأجل هويتنا.

هويتنا المسروقة... فالأرض ما زالت موجودة، ولكنها بلا هوية... ضاعت.

كان من المهم جداً أن يعود الاسم للأرض حتى تعود الهوية.

هذا الالتباس المبهم غير مفهوم...

أنت تحب الأرض... هذه هي الأرض موجودة لم تؤخذ منك.

ولكنك تكتشف بأنك تحب الانتماء لهوية هذه الأرض، وليست الأرض بذاتها.

الهوية أن تكون كويتياً... وهذه الأرض كويتية.

2 / 2

وأن تشعر بلذة هذا المعنى وطعم هذا الانتماء.

كنا نستمتع ونحن نجلس في حديقة المنزل... في مواجهة مدرسة بناتي المتحوّلة إلى معسكر لضباط الفرق الخاصة ذات «البريهات» الحمر.

كان مجرَّد الحديث باللهجة الكويتية يمنحنا بهجة التحدي والمؤامرة، فما أصعب أن تصادر اللهجة وصيغة الكلام.

كانوا يشتغلون في إصلاح الآليات المعطوبة في ساحة المدرسة...

كرينات وحدادة وأكسجين ولحيم وشرار... وطاخ طيخ.

كان أخي ورفاق المقاومة يعدّون الخطط تحت طقس البراءة هذا...

كان دائماً تحت البراءة يختفي لغم.

فمن المستحيل حين تكون وحشاً، أن يكون الذي أمامك حملاً.

العنف يولد المخلب... والقسوة تعلّم القتال.

فهل كنت قادرة على القتال مثلها؟

بما أن الحكمة كانت من نصيبي، كان لابد من وجود أسباب.

الخوف على طفولة أولادي... مثلاً...

بيت ليس فيه إلاّ نساء...

بيتي في مواجهة متراس العدو... مطوق بالجنود الساكنين المنازل التي هجرها ساكنوها.

حركتي مكشوفة ومحسوبة...

محاولتي إبقاء هوية الكاتب مطوية في السر والخفاء.

فهل نجحت في التخفّي؟

وهل طاقية الحكمة غطتني بما فيه الكفاية؟

الجواب موجود في سيرة الخوف.

back to top