«المرسيدس» لا يجرها حصان!

نشر في 18-02-2018
آخر تحديث 18-02-2018 | 00:12
 ياسر عبد العزيز لعلك لاحظت أن الجيل الجديد من أبناء العالم العربي بات لديه نسق قيم قائم بذاته، ولغة تخاطب مختلفة، ورموز نجهل معظمها، واهتمامات لا تشغل الأجيال الأكبر سناً.

ورغم أن هذا الجيل يتوزع على بيئات اجتماعية واقتصادية متباينة، وتتفاوت المستويات التعليمية والثقافية لأبنائه تفاوتاً كبيراً، فإن تلك السمات الجامعة، والتي تتصل تحديداً بالقيم العالمية السائدة، تبدو عاملاً مشتركاً بين قطاعات كبيرة فيه.

نحن نتابع ما يجري من تطورات سياسية متسارعة ومهمة في هذه الآونة، ونختلف أو نتفق مع أطرافها ومع الممارسات الصادرة عنها، لكن الأجيال اليافعة والشابة، وخصوصاً هؤلاء الذين تلقوا أنواعاً جيدة من التعليم، يظهرون رد فعل مختلفاً عن ردود أفعالنا على تلك التطورات.

يبدو لي أن الجيل اليافع والأصغر سناً أكثر ابتعاداً عن تقبل الأخطاء التي نرتكبها أو نتعايش مع وجودها، وأقل قدرة على فهمها أو إيجاد ذرائع لها، وأنه ينصرف إلى حالة من الغضب والذهول والشعور بالعجز حيالها، وللتحايل على ذلك، فإنه يلجأ إلى السخرية منها وتحويلها مادة للضحك.

سيمكننا الاختلاف على طبيعة التطورات الاجتماعية التي تجري في دولة شقيقة مثل المملكة العربية السعودية، وسينقسم المحللون إزاء احتمالات تحقيقها النجاح، لكن من الصعب جداً دحض اتساقها مع المزاج السائد بين الجمهور السعودي الأصغر سناً، والأفضل تعليماً، والأكثر اتصالاً بالمفاهيم الحداثية والقيم العالمية.

وسيمكننا انتقاد احتفاء أبناء الدول العربية من الشبان واليافعين بالدوري الإسباني أو الإنكليزي، وتشجيع لاعبين من فرق هذا الدوري أو ذاك، أو اهتمامهم بنجوم سينما عالميين معينين، أو اتخاذهم بعض النجمات العالميات من عارضات الأزياء ونجمات تلفزيون الواقع ملهمات أو رموزا حسية، أو تركيزهم على ارتداء ملابس وأحذية تحمل "ماركات" عالمية براقة، لكننا نعلم أنه من الصعب جداً تغيير ذلك.

قبل أيام، نُشر كاريكاتير في إحدى الصحف العربية يصور الدولة الإيرانية في صورة سيارة "مرسيدس" حديثة الطراز، يجرها حصان، ويقودها رجل دين يرتدي ملابس تقليدية، وهو رسم يوضح طبيعة الصدام الذي يحتدم راهناً في هذا البلد بين القيم التقليدية التي تريد النخبة الحاكمة صيانتها، وبين القيم الأحدث التي تتبناها قطاعات في الجيل الجديد، وتبدو أكثر اتساقاً مع القيم العالمية.

عبر التصادم المفضي إلى التغيير تتبدل القيم السائدة في أي مجتمع، وتنحو نحو منظومة من التقاليد والنزعات العالمية، التي باتت محل ثقة واهتمام ورواج بين قطاعات الأجيال الجديدة، وهو الأمر الذي حدث عبر أوروبا كلها.

لا يوجد اختلاف بين الساسة في الشرق والغرب في هذا الصدد، إلا فيما يتصل بآليات التنفيذ وطبيعة النظام السياسي، وعندما يخفق نظام ما في قراءة التطور الحاصل في بيئة القيم والرموز للقطاع الحيوي في مواطنيه، فإنه يتخذ خطوات، أو ينتهج سياسات غير شعبية، ولا تحظى بالتأييد والتفهم، وبالتالي، فهو يستفز طاقة المعارضة، ويدخل في صدامات، يصعب جداً أن يربح نتائجها، بالنظر إلى أن موارده ناضبة، فيما مورد المعارضة (الشباب) متجدد؛ إذ إن الشعوب لا تتوقف عن الإنجاب.

لذلك، علينا أن نتحدث إلى أبنائنا والمحيطين بنا من الشبان واليافعين، وعلينا أن نقرأ بإمعان ما يكتبونه من "بوستات"، وما "يشيرونه" من فيديوهات، وما ينتجونه من "كوميكس"، وما يتداولونه من نكات، وما يقولونه حينما يتحدثون فيما بينهم.

مع الاعتراف بأن ثمة الكثير من التباين بين قطاعات الشباب على أكثر من قاعدة ووفق أكثر من تصنيف، فإن الاتجاه السائد بين المتعلمين خصوصاً من الشبان يبدو مخاصماً لما يجري من ممارسات سياسية واقتصادية واجتماعية في ذلك التوقيت بالذات.

من المؤكد أن ذرائع الاحتجاج أو التمرد لدى هذه القطاعات الشابة تتصل بصورة مباشرة بالصعوبات والتحديات الاقتصادية التي تواجهها بلادهم، وكثيراً ما ترى هذه القطاعات الشابة أن ما يجري راهناً في الحياة السياسية والمجال العام لا يتسق مع الرموز والقيم والأدبيات العالمية التي اطلعت عليها أو قرأت عنها أو درستها.

ثمة قرارات يجب أن تتخذ لصيانة الأمن الوطني، وهي قرارات قد تكون صعبة ومتجاوزة لمواجهة تحديات ضخمة وخطيرة، لكن تلك القرارات يجب أن تسعى إلى الاتساق مع القانون والدستور من جانب، والقيم العالمية المعتبرة من جانب آخر بقدر الإمكان.

عندما تعجز الدولة عن ذلك، فإن الأضرار تقع، وستكون الأضرار الداخلية متناسبة طردياً مع حالة الإدراك والاهتمام بتلك القيم والرموز العالمية. فإذا كانت قطاعات مؤثرة في الجمهور تعرف عن الديمقراطية وتداول السلطة، وتقرأ ما جرى في الانتخابات الفرنسية والأميركية، وتتعرف إلى التحليلات بشأن التدافع السياسي الجاري في هيكل السلطة الألمانية، فإنها لن تكون متفهمة لفكرة الاستبداد أو الديمقراطية الشكلية. بالنسبة إلى أولادنا الذين يشاهدون الأفلام الأجنبية على الإنترنت بانتظام، والذين سبق لهم أن سافروا خارج البلاد سواء إلى أوروبا أو الولايات المتحدة، والذين يطالعون الأخبار في وسائل إعلام دولية بلغات أجنبية، فإن نسق القيم الذي يعتبرونه، وجملة المعايير التي يحترمونها، وحجم المعلومات التي يطلعون عليها، يبدو أكبر وأوضح من أن يسمح لهم بالتساهل مع ما نرتكبه من أخطاء في ممارستنا السياسية بحق القيم والمعايير والرموز العالمية.

يجب أن نسأل لماذا تغير مزاج هؤلاء الشباب، وراحوا يستمعون إلى أغان أجنبية، في الوقت ذاته الذي يسخرون فيه، من خلال "الكوميكس" و"البوستات"، من المطربين المحليين الذين ازدهرت أعمالهم على مدى عقود سابقة.

إنها سنة الحياة، فالتغيير يحدث بإرادتنا أو بدونها، وعندما تأتي الأجيال الجديدة، فإنها تأتي بقيم جديدة ورموز جديدة، وتحتاج إلى معايير جديدة، وعندما نخفق في تلبية ذلك، يحدث الانقطاع، وتتراكم مشاعر الصدمة، والإحباط، والعجز، وقد يؤدي هذا الكبت لاحقاً إلى الانفجار.

هؤلاء الذين يضعون السماعات في آذانهم طوال الوقت، ويحولون ما يفعله الساسة إلى "كوميكس" و"بوست" للسخرية، لن يقبلوا باستمرار الأوضاع غير الرشيدة، والحل يبدأ عندما نفهم أن ما جرى في حقب سابقة، لا يصلح لليوم أو الغد.

* كاتب مصري

back to top