بين الشفاهة والكتابة

نشر في 07-02-2018
آخر تحديث 07-02-2018 | 00:00
 طالب الرفاعي أعداد كبيرة من الفتيات والشباب، في الكويت ومنطقة الخليج وأقطار الوطن العربي، وربما العالم، باتوا مغرمين بالكتابة، والكتابة الروائية على وجه الخصوص، لأسباب من بينها؛ انتشار جنس الرواية الكبير بين الكُتاب والناشرين وجمهور القرُّاء، إضافة إلى جوائز الرواية حول العالم.

ومؤكد أن قراءة الروايات قد توحي للبعض بسهولة خوض تجربة الكتابة الروائية، وهذا ما يفسِّر انتشار روايات لا تحمل من معنى فن الرواية إلا الاسم، بل إن القارئ المتفحص والناقد المختص يستغربان كيف تُقدِم دور النشر على نشر هكذا أعمال لا علاقة لها بجنس الرواية، ولا تتوافر بها العناصر الرئيسة لأي عمل روائي. ولا يفسِّر ذلك سوى انتعاش سوق النشر، وأخذ مبالغ ليست بالهينة من الكُتاب الشباب، دون النظر إلى جودة وصلاحية ما يكتبون. وكم يبدو الأمر مؤسفاً! فمن الضروري أن تتوخى دور النشر جودة وصنعة الكتابة، وأن تستشعر مسؤولية ثقافية تجاه ما تنشر، وألا تكون دار النشر بمنزلة مشروع تجاري يراعي الربح والخسارة، ولا شيء غير ذلك، ويجد ضالته في نشر كتابات شبابية بائسة، تسيء لصاحبها مثلما تمس سمعة الناشر. وليس أقل من تشكيل لجنة قراءة من المختصين، كي تقرأ بعين فاحصة، وتجيز نشر الأعمال الأدبية، سواء في الرواية، أو القصة القصيرة، أو الشعر، أو الكتابة المسرحية.

إحدى الملاحظات الإشكالية التي تبدو لي واضحة في الكتابات الشبابية، هي محاولة كتابة المشهد الروائي كما جاء في الحدث الواقعي المعاش، أو بمعنى آخر نقل الحدث الإنساني اليومي البسيط، ليكون مشهداً في رواية. وإذا كان الخاطر الإنساني بالنسبة للكاتب الشاب يوحي له بسهولة نقل الحدث ليكون مشهداً، فإن عالم الكتابة الإبداعية يرى أن فن صنعة الكتابة في جوهره يكمن في هذا تماماً. فما هي الكتابة الإبداعية إن لم تكن ترجمة حوادث الحياة البسيطة، منذ شرّع أنطون تشيخوف Anton Chekhov (1٩٠٤-1٨٦٠) ذلك، لتكون مشهداً قصصياً أو روائياً مكتمل العناصر؛ من حدث وشخصية ومكان ناطق، وزمن متحرك، وأخيراً رسالة يتوخى الكاتب إيصالها للقارئ.

أولى العلامات التي يتوجب على الكاتب الشاب الانتباه إليها، هي أنه لحظة الكتابة، إنما يكتب المشهد من خياله، وليس من الواقع. فالمشهد الواقعي انقضى بمرور لحظته الإنسانية العابرة، وبالتالي تحوَّل إلى ذكرى تقبع في خيال الكاتب، ومن هنا لزم على الكاتب فهم ذلك، والتوقف ملياً أمامه، حيث إعادة تشكيل وتلوين هذا المشهد، وبث الحياة بين جنباته، لا كما كان في الواقع، بل كما يجب أن يُرسم في مخيلته، ويعاود هو فرزه على شاشة الكمبيوتر، أو الورق لاحقاً، مضيفاً إليه نكهة خاصة تلوِّن جوانب المكان، وتضع ملامح لشخصياته، وتستنطقهم بألسنتهم كشخوص ورواة للحدث، محتفظاً بمسافة فاصلة بينه كمؤلف وبين شخوصه، بوصفهم شخصيات اكتسبت حضورها الإبداعي من لغته وخياله.

وتأسيساً على ذلك يأتي النظر إلى الوصف والحوار، فالمشهد الواضح في مخيلة الكاتب، مجهول للقارئ، ولا يمكن أن يتشيأ ويأخذ هيئته إلا عبر اللغة. وبالتالي، يلزم للكاتب أن يقدم الفضاء الروائي للمشهد، إضافة إلى الوقوف ملياً عند الحوار. فاللغة المحكية شفاهة والحميمة في الكثير من الأحيان، يكاد يكون في حكم المستحيل نقلها كما هي إلى الكتابة. الناس تتحاور ببساطة في الواقع، كونها موجودة في الحيِّز المكاني نفسه، وكونها قادرة على رؤية بعضها البعض، لكن الأمر يختلف تماماً حين ينتقل إلى الكتابة، وهذا ما يستوجب التأمل والتبصر والاستعداد قبل كتابة المشهد.

أكثر من نصف قرن مرَّ منذ أن صنّفت الجامعات والمعاهد الأميركية، ولاحقاً الأوروبية، الكتابة الإبداعية بوصفها عِلماً يتوجب على الطالب الموهوب معرفة عناصره وإتقان التعامل معه قبل أن يخوض في بحر الكتابة، سواء القصصية أو الروائية، وهذا ما يجب أن يتفهمه كُتابنا الشباب، وأن يتوقفوا عنده، قبل أن يقدموا على نشر أي عمل أدبي.

back to top