الانتفاضات العربية... و«الأمن الديمقراطي»

نشر في 04-02-2018
آخر تحديث 04-02-2018 | 00:12
 ياسر عبد العزيز في تلك الآونة من كل عام سيكون من المحتم أن نستعيد ذكرى اندلاع الانتفاضات العربية، وبموازاة ذلك سنسعى إلى استخلاص الدروس والعبر.

ثمة قواسم مشتركة يمكن أن نجدها في تلك الانتفاضات، التي اندلعت على التوالي، في ما يشبه حركة "الدومينو" الشهيرة، ابتداء من تونس في 14 يناير، ثم مصر 25 يناير، فاليمن 11 فبراير، ثم ليبيا 17 فبراير، قبل أن تحط رحالها في سورية في 15 مارس من عام 2011.

لقد مرت سبعة أعوام منذ اندلاع الانتفاضات، وهي فترة كافية لدراسة التطورات، وتقييم الأثر، سعياً إلى مقاربة أكثر وعياً لحال الجمهورية العربية في العقد الثاني من الألفية الثالثة.

ما زالت تونس تكافح لتثبت أن "ثورة" اندلعت بها، وأن لتلك "الثورة" استحقاقات بدأت في التحقق بتباطؤ وعلى استحياء، لكن الأوضاع في اليمن وسورية وليبيا كانت أكثر مأساوية بكل تأكيد، إذ تمخضت الانتفاضات عن سقوط الدول أو تزعزعها، وحروب أهلية، وتدخلات إقليمية ودولية، وأوضاع كارثية، ومئات آلاف القتلى والجرحى، وملايين المشردين والمهاجرين والنازحين.

أما مصر فيمكن القول إنها عانت الكثير، وتكبدت خسائر ضخمة، وواجهت تحديات هائلة، قبل أن تنكشف الغيوم عن وضع جديد، تجتهد القوى الفاعلة الرئيسة ضمنه لكي تستعيد الأوضاع التي سادت قبل اندلاع الانتفاضة.

ليس هذا فقط، لكن الرئيس السيسي، الذي كان يفتتح مشروعاً عملاقاً لاستخراج الغاز من البحر المتوسط، قبل أسبوع، راح يؤكد أن سلطته ستبذل كل ما تملك لكي تمنع تكرار "ما حدث قبل سبع سنوات".

سيفهم البعض من نقاد الرئيس أنه كان يقصد "منع اندلاع الثورة مجدداً"، وسيعتقد آخرون من مؤيديه أنه كان يقصد "منع الفوضى والانفلات الأمني ووقف عجلة الإنتاج وتحول البلاد مطية للتدخلات الخارجية والعبث (الإخواني)".

وفي كل الأحوال، فإن البلاد لا تبدو مستعدة لاستعادة أجواء الاحتجاج، رغم كل ما يقال عن "أزمات اقتصادية" أو "اختناق سياسي" أو "خيبة أمل"؛ إذ تكفلت المآلات المأساوية للانتفاضات العربية بتحييد حركة الشارع، واستبعاد خيار "الثورة"، والاكتفاء بالتعويل على الإصلاح.

لا يمكننا تجاهل وجود مسوغات موضوعية لاندلاع الاحتجاجات الضخمة في دول "الدومينو" السابق ذكرها، ولا يمكننا تجاهل أنها جميعها تستحق إدارات أكثر رشداً مما توافر لها على مدى نصف القرن الذي سبق اندلاع الانتفاضات، لكننا في المقابل ندرك أن تلك الاحتجاجات كانت البيئة التي ترعرع فيها لاحقاً ما يمكن وصفه بـ"الحرب اللامتماثلة" التي تم شنها في تلك الدول.

واجهت مصر وسورية وليبيا واليمن حرباً لا متماثلة بكل معنى الكلمة؛ وهي حرب لا تشنها جيوش نظامية، إنما جماعات، تدعمها دول وأجهزة استخبارات دولية، تضرب في مساحات زمنية وجغرافية مفتوحة من دون حد، وتستهدف إنهاك الدولة وتقويضها وتفجيرها من الداخل.

فمنذ اندلاع الانتفاضات تحالفت تلك الجماعات وداعموها ضد الدول المستهدفة، لتشن هجماتها التي شملت عمليات إرهابية، وقصفاً إعلامياً مركزاً، وأنماط تحريض، وفتناً طائفية، واحتجاجات ذات طابع تخريبي، بمساعدة ضغوط سياسية ودبلوماسية، ودعم وتمويل سخيين.

لا يعني هذا بالطبع أن "الاحتجاجات لم تكن سوى مؤامرات"، كما أنه لا يعني عدم وجود ذرائع كافية للثورة على النظم الحاكمة في تلك الدول والعمل على تغييرها، لكن الأكيد أن دولاً وكيانات أرادت استثمار هذه الذرائع، باستخدام "تكنيكات الحرب اللامتماثلة" من أجل خلخلة الدول المستهدفة وإسقاطها.

لم تستهدف الانتفاضات دول "الدومينو" العربية فقط، لكنها حاولت مع دول أخرى في المنطقة وخارجها، وبعد مرور سبع سنوات على اندلاع الانتفاضات، بات من الواضح أن النظم التي تتمتع بدرجة مناسبة من الرشد في إدارة الشأن العام، تظل بلادها عصية على تلك الاختراقات المتنوعة، التي لا تزدهر وتقوى شوكتها إلا في الدول والمجتمعات غير المتماسكة، أو تلك التي تحكمها أنظمة لا تتحلى بالكفاءة.

ولأن بعض الدول المستهدفة تمتلك إرادة البقاء، وتحكمها نظم يتسم أداؤها بالفطنة، فقد نجحت في بلورة سياسات بدت فعالة في التصدي لتلك التحديات، بحسب مناعتها الذاتية، ودرجة الرشد في أدائها، والسياق الدولي المواكب، وحدّة الاستهداف، ومدى تركزه.

وبتحليل تلك السياسات وجد الباحثون المختصون أنها تركزت في ثلاثة عناصر رئيسة؛ أولها المواجهة الحاذقة الحاسمة للاستهدافات العسكرية والأمنية ضمن "الهجوم اللامتماثل"، بحيث لا تكون هناك فرصة لأي اختراق مؤثر للحالة الأمنية، أو إشاعة الفوضى، أو زعزعة هيبة الدولة، مهما كانت التكلفة ومهما كانت التداعيات.

وثانيها يتعلق بدرجة الرشد والنجاعة في الإدارة الاقتصادية للموارد المتاحة، بالشكل الذي يحقق إنجازاً اقتصادياً ملموساً، يتم توزيع أثره بقدر من العدالة مناسب، بحيث يعالج الأبعاد الاجتماعية، ويبطل دعاوى المظلومية، بما يجرد هذا الاستهداف من القدرة على الاستثمار في ذرائع الاحتجاج والتمرد.

أما ثالث هذه العناصر، فليس سوى ما يعبر عنه مصطلح "الأمن الديمقراطي"، وهو تلخيص لجملة من السياسات التي تنتهجها الحكومة، ليس لتحويل البلد بالضرورة إلى صورة من الديمقراطيات الغربية ذات الطبيعة الخاصة والسياقات الموضوعية المتعذر وجودها في مناطق أخرى من العالم، ولكن لإيجاد بيئة ضامنة لقدر مناسب من الحريات وحقوق الإنسان، بشكل يُبقى المجال العام طبيعياً، ويترك الفرصة للجماعات والقوى السياسية والاجتماعية للتعبير عن مواقفها ومصالحها، ويخلق حالة سياسية، تضمن التدافع والتنافس، ضمن إطار القانون، وتحت سقف الدستور.

يزدهر "الاستهداف اللامتماثل" عندما تكون صورة الدولة الذهنية سيئة، والانطباعات السائدة عنها سلبية، خصوصاً فيما يتعلق بالانتهاكات الفجة في مجال حقوق الإنسان والحريات المدنية والسياسية، التي تتحول لاحقاً إلى ذارئع للقوى المعادية، وتضعف قدرة الدولة، وتجردها من المناعة في مواجهة الضغوط.

تخبرنا الوقائع أن استيفاء تلك العناصر واجب وناجع في آن واحد، وأن الإخفاق في تفعيل القدر المناسب منها قد يفضي إلى نهايات سوداء.

وتبقى قدرة الدولة على الموازنة بين مطالب المواجهة الأمنية الفعالة من جانب، واستحقاقات "الأمن الديمقراطي" الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية من جانب آخر، وصفة مضمونة للنجاح.

* كاتب مصري

back to top