الباغ

نشر في 23-01-2018
آخر تحديث 23-01-2018 | 00:00
 د. نجمة إدريس يبدو لي أن الروايات الأكثر بقاءً وثراءً، هي التي تستمد أحداثها وأجواءها من معين التاريخ والبيئة. وكلما كان الكاتب ابناً لهذه البيئة، ومرتبطاً بها رحماً ولحماً، كانت مقاربته أكثر أصالة وتماهياً، لأنه ببساطة ينتمي إلى شجرة أرضه ومائها وجذورها، ويجيد التحدث بلغتها القلبية.

بشرى خلفان في روايتها (الباغ)، وتعني الحديقة التي تسوّر البيت، استطاعت أن تجعلنا نشم عبق البيئة العمانية، ونستشرف تاريخها، ونجول في حديقة الروح العمانية المترامية في قلعة "بيت الفلج"، و"مطرح" و"مسقط"، و"السراير"، و"الجبل الأخضر". هناك تندس القرى والمزارع، والسفوح والكهوف، وهناك تتبرعم حياة البراءة والريف وطعم الكدح، وتنبثق الوجوه والأحداث طازجة، كأن التاريخ ولدها في التوّ.

قد يحتاج مَن يكتب حول التاريخ إلى استشارة المراجع والانقطاع إلى دراستها، لكن في كتابة الرواية هذا وحده لا يكفي. فإلى جانب الحاجة إلى اصطناع الشخصيات، وإلى خلق تفاصيل حياتية موازية ومدعومة بالخيال، هناك ما هو أهم، وهو التماهي مع روح الزمان والمكان، والحلول فيهما، وهو ما نراه في رواية "الباغ"، التي تأخذنا إلى مستويات من الوعي المتقدم بروح التاريخ وشخصيته الاعتبارية.

في الرواية أيضاً إحساس عالٍ بالإنسان، وبطاقاته التي يشعها من خلال وجوده المؤثر، وكدحه، وصراعاته اليومية، وطموحاته في عيش أفضل. وحين الدخول في تفاصيل الشخصيات، يلفتك الحضور الطاغي لخلفياتهم البيئية، لنمط العمل والنشاط، للهجات المحلية، لموران الحياة، وهي تنسرب متواطئة مع تحولاتها قدماً.

ثم تأتي حياكة الحكاية، لتأخذك إلى مشاهد الترحّل من مزارع النخيل والأفلاج، إلى السفوح المترامية، فرائحة البحر، انتهاءً إلى الجبال والكهوف التي سكنها متمردو ثورة ظفار. على مدى عقدين أو ثلاثة من تاريخ عُمان، تتلامح وجوه راشد وريّا و"العودة" و"البيبي" وزاهر وعليّ، لتكوّن الطينة التي تنفخ فيها الكاتبة من روحها، لتخلق سياقاً للقصّ وهيكلاً للفكرة. يأتي راشد في تحولاته، ليمثل إباء الضيم، والسير الحثيث لإرسال قاعدة للكرامة والقوة، ممزوجة بسلطة عسكرية. ويأتي ابن شقيقته، زاهر، ليحلم بأفق آخر، لا يتحقق إلا بالثورة والتغيير الجذري. وتأتي ريّا الأخت والأم، المجلوّة بالحكمة والروحانية، لتكون جسراً متوتراً بين الاثنين. محاولة أن توفق وتوائم بين فكرة الإصلاح المدجج بالقوة التي يتبناها أخوها، وفكرة الثورة والتغيير الجذري التي يصدح بها الابن.

وبين هذه الأعمدة الأساسية للرواية، تتداخل شخصيات مساندة، تعين الهيكل الروائي على استكمال لوحته الكلية، وضخّها بماء الحياة. شخصية "العودة" لها الفضل في اكتشاف مواهب ريّا وإمكاناتها. "البيبي" فتّحت مدارك ريّا على الجمال والغضارة والتفاصيل الملهمة. الأصدقاء والرفقة علموا زاهر معنى الرجولة والتحدي وفضيلة الاختلاف. وباقي المنمنمات تأخذ القارئ إلى آمادها، ليكون هناك بكليته.

هكذا تلخص بشرى خلفان تاريخ عمان الحديث، مستعينة بالموضوعية والبصيرة، تاركة الحيثيات والتفاصيل تظهر بأحجامها الطبيعية. هي تكتب التاريخ بنسخته الإنسانية، التاريخ المحكي، الشعبي، الذي يعرفه الكادحون والبسطاء والشيوخ المعمرون، ويحكونه لأحفادهم كلما عنّت الذكرى، وهاج بهم الحنين للصور الغاربة.

عرفت الكاتبة كذلك كيف تكتب هذا النسيج الإنساني المتشابك، حين اختارت لغة تشبهه، لغة ذات إيقاع يشبه الترحّل والأمكنة، ويشبه السحنات واللهجات، ويشبه وطنها في محليته وعبقه واختلافه. كانت اللغة جميلة ومعبرة وموحية ومتماسكة. وكانت تختزن عُمان في لحمها الحيّ وتشي برائحتها، وتؤثث لها بيتاً حميماً في الذاكرة الروائية.

back to top