«الطوق والإسورة»

نشر في 22-01-2018
آخر تحديث 22-01-2018 | 00:00
 فوزية شويش السالم "الطوق والإسورة" رائعة الكاتب يحيى الطاهر عبد الله، عمل روائي مبهر على قصر مساحته، إلا أنه جاء برواية ذات قماشه مكتنزة بقيمتها الفنية والأدبية، توازي وتتفوق على أي عمل روائي تتجاوز صفحاته الألف صفحة، كيف؟!

لأنه عمل غني بكثافة الصور الفنية ذات اللوحات العميقة والثرية، بالمعنى القابل لتوليد مئات المشاهد التي تزيد وتراكم من تفسيرها للصور الهاطلة المتلاحقة في السرد الروائي، صور نابضة سحرية متداخلة متمازجة ناعمة أحيانا، وعنيفة خشنة في أوقات أخرى، صور مرسومة بريشة على ماء نهر جار.

وهذه مقتطفات تُبين بعضاً منها: "خبطات الهواء تحرك الأوراق الخشنة الكبيرة لشجر الدوم، وتجعلها تحتك وتصدر أصواتاً أشبه بزحف الحيات وسط دغل الحلفاء، وضوء شمس ما قبل الغروب الأصفر اللين يغمر أرض وحوائط الفناء الضيق".

وهذا مشهد فيه صور وسريالية سينمائية مبهرة: "ثلاث أرامل... شقيقات، يلبسن الأردية السوداء الطويلة التي تغطي الرأس والقدم، يظهرن في الظهيرة، وقت تكون الشمس بوسط السماء: عين حمراء متوهجة كجهنم، بينما ظل السائر مدقوقاً بالأرض، وتلال القبور تفتح أفواهها فتطلع منها ألسنة النار. ثلاث أرامل، ثلاث جنيات، يمسكن بالرحى الكبيرة التي تدور ولا تتوقف قط: تطحن الكلاب والقطط الضالة، فتتكسر العظام من طقطقات عالية، ويختلط الدم باللحم، ويطفر الدم من اللحم ساخناً يضرب وجه الجنيات، بينما عيونهن تقدح بالشرر، ووجوههن تطفح بالشهوة الحمراء، وصراخهن المجنون يصل للسماء وترتج له طبقات الأرض، القادرات، ذوات أنياب الذئاب، أصواتهن وكل الأصوات في أذني فهيمة".

الرواية تشعر القارئ بأنه يشاهد لوحات تشكيلية لرسام، وأحيانا تتحرك لتصبح مشاهد سينما حية، وهي بالفعل تحولت إلى فلم من أروع أفلام السينما المصرية من إخراج خيري بشارة وبطولة عزت العلايلي وفردوس عبد الحميد وشيريهان.

الصدق بالصورة بعث فيها نبض الحياة على الورق، وهذه من خصائص موهبة كتابة يحيى الطاهر عبدالله، التي امتصت عالماً بكامل صوره التشكيلية ومشاهده السينمائية وأصوات كل ما فيها من إنسان وطائر وحيوان، حتى حفيف الشجر ونقرات المطر وصهير أتون الشمس وزمهرير البرد في الشتاء، استطاعت ذاكرته بلع مدينة بكامل ما فيها، وخزنته بذاكرة طفولة وصبا وشباب تتداخل وتتشابك وتتقاطع في نسيج حكايات سكنته، واحتلته بالكامل حتى حان مولدها فتدفقت بفيضان فني أدبي لا يشبه أحداً، موهبة آتية من روح شغف جنوني بفن كتابي جديد ومختلف عما حوله من كتابات، فهذه الذاكرة التي بلعت ذاكرة مدينة الأقصر بحالها وقراها وما فيها من حياة ناسها وطبيعتها وأسرارها، جاء وقت امتلأت حتى فاضت بفيضان كتابة لا يمكن حصر وشمل نوعها وتفسير أسلوبها ونمط كتابتها، فقط حضرت وجاءت وتجسدت المدينة المبلوعة بكل ما فيها من حكاوي حياة أناسها، بكل أوجاعهم وأفراحهم وأحزانهم ومواويلهم وأساطيرهم المختلط فيها خيالهم وواقعهم، فتولدت رواية الطوق والإسورة، حكاية من حكايات عديدة طفحت من المدينة المبلوعة في جوف يحيى الطاهر عبدالله.

الرواية مثلها مثل بقية قصصه ورواياته تتشابه معها في أسلوب كتابتها، لأنه جمع كل تقنيات الكتابة منذ وقت مبكر جدا، حين بدأها في مجموعته القصصية الأولى "ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالاً"، التي كشفت عن تداخل كل التقنيات الفنية في نصوصه، وجاءت بحداثة فنية طازجة امتزج فيها الفن التشكيلي بالصورة، والسينمائي بتحريكها، والسيناريو والحوار والموسيقى الآتية من فن المواويل والقص والإنشاد الشعبي وروح الملحمية فيها، على طريقة القوّال الذي يعيد ويكرر إنشاد وقص الحكايات، مما يمنحها ترديدات موسيقية جذابة تزيد وتعمق بحفر الأسطوري بالواقعي بالتراثي بالشعبي بالغرائبي.

وهو ما جسده المخرج "خيري بشارة" بأفضل تجسيد في فلمه، وأظنه لم يتعب كثيرا في اجتراح الصور، لأن الرواية قدمتها له جاهزة مقشرة.

الرواية تحكي عن حياة الأم حزينة وزوجها العجوز وابنتها فهيمة، وسفر ابنهما للشام وفلسطين للعمل هناك، تزوج ابنتها من حداد، لكنها تطلق منه بسبب أنه عنين، مع أن أمها دبرت أمر حملها من رجل في معبد، تمرض فهيمة بالحمى وتموت بعد موت والدها، وتبقى حزينة مع الطفلة التي تكبر وتحمل من صديق طفولتها ابن الشيخ، وحين يعلم خالها يدفنها في حفرة، وبعد ذلك يقطع رأسها ابن خالتها ويرميه عند خالها، وينفض الناس عنه.

back to top